رسالة من نازح يجلس على رصيف السعير!

ابراهيم ملحم

 

وردتني هذه الرسالة الموجعة من نازحٍ يتابع هذه الزاوية يومياً، بينما يجلس منذ أيامٍ مع أطفاله وزوجته على رصيف المجمرة في سعير غزة، يفترش الأرض ويلتحف السماء، أخبرني أنه فقد شقيقه عامل البلدية بمجزرةٍ استهدفت منزله وسط غزة الليلة الماضية.

لا تكمن أهمية الرسالة في ما ورد بها من مديحٍ لقلم يكتب بحبر القلب، بقدر ما تضمنته من توصيفٍ لوقائع موتٍ معلن ، يكابد فيه من كُتبت لهم الحياة، أوجاع الفقد والقهر وقلة الحيلة وهوانهم على الناس، الذين يأكلون ويشربون ويتأنقون كل صباح، دون أن يعبأوا بمعاناة الأطفال والشيوخ والنساء في جحيم الإبادة التي تدخل بعد أيام عامها الثالث.

إلى الدكتور أبو البهاء المحترم،

حين تكتب عن غزة، أشعر أن الحروف تسترد بعضاً من حقيقتها، وأن الصحافة تعود إلى جوهرها الأصيل: أن تكون صوت المقهورين، لا صدى للمتفرجين. قرأت كلماتك، فوجدت فيها مرآةً لوجعنا، وكأنك تلتقط أنين النزوح من بين الأنقاض وتحوّله إلى سطورٍ من ضوء.

نحن هنا في غزة نحمل أوجاعاً لا يراها العالم إلا أرقاماً في شاشات الأخبار: بيوتٌ تُهدم، أحلامٌ تُقتلع، أطفالٌ يبحثون عن لعبتهم تحت الركام، ونساء يفتّشْن عن دفءٍ مفقودٍ في خيام البرد. النزوح يا دكتور ليس فقط انتقال الجسد من بيتٍ إلى أطلال خيمة؛ النزوح هو أن يُقتلع الإنسان من ذاكرته، من دفاتر مدرسته، من رائحة قهوته الصباحية، من شجرة الليمون التي كان يرويها بحب.

أكتب إليك لأقول: شكراً لأنك منحت لوجعنا مكاناً في صحيفة “ے”، ولأنك كسرت جدار الصمت العربي الذي يطوّقنا. إنّ صمت العواصم أشد قسوةً علينا من دويّ الطائرات، لكن صوت قلمك يجعلنا نؤمن أن الحكاية لم تُدفن بعد، وأن الحقيقة ستبقى عصيّة على التزوير.

غزة ليست خبراً عابراً، غزة جرحٌ مفتوحٌ في صدر الإنسانية، وقضيةٌ ستظل تختبر ضمائرنا جميعاً. ونحن، رغم النزوح والقهر، سنبقى نقاوم بذاكرتنا، بكلماتنا، وبحقّنا في الحياة الكريمة.

مع خالص التقدير
أنس الشاعر/ زوجتي وأطفالي وأنا من أحد الأرصفة بلا خيمة!