ما الحياةُ، في صعودها وهبوطها، في جرحها ونداها، إلا مخطوطةً غير مكتملةٍ يخطُّها الضوءُ بخجلٍ على جدار الظلّ، ثم تهبّ عليها رياحُ العدم فتمحو ما كان يُظنّه القلبُ أبديًّا. وما نسميه أمانًا ليس إلا استراحةَ وهمٍ قصيرة بين حربين، نعلّق عليها رجاءً ندري في سرّنا أنّه هشٌّ كزجاجٍ يتيم، يعلّق ارتجاف الروح ولا يطفئه.
والتفاؤلُ حين يبالغ في تهذيبه يتحوّل إلى ستارةٍ حريرية تخفي العمى، يربّت على كتف الوعي كأمٍّ تلوِّن الحقائق خوفًا على طفلها، بينما الوقائعُ تُسنُّ خلف الستار، تنتظر أول غفلةٍ لتغرس أنيابها في خاصرةِ الرجاء. ومن يراهن على فكرةِ الدوام يخسرُ لذّة اللحظة، لأن الزمن – هذا الكائن المراوغ – لا يوقّع عقودًا أبدية مع أحد.
بل إنّ العدالةَ الكونية التي نُلصق بها جراحنا ليست ميزانًا سماويًا يُمسك بالحق، بل أمنيةٌ نُطعمها من خيبتنا فتتعثر عند أول منعطف، فنظن – كما لو أنّ الوعي يولد كل يومٍ من جديد – أنّ الخلل طارئ، لا أنّه نسيجٌ متجذّرٌ في طبيعة الوجود.
العاقل لا يجرّ سيوفَه على هشاشته، ولا يحاول قمع الشقوق التي نُحتت فيه عبر العمر؛ يعرف أنّه مخلوقٌ من طبقات رقيقة، وأن التظاهر بالقوة لا يزيد شروخَه إلا عمقًا. لذا يعقد هدنةً مع ضعفه، يربّت على كتفه كما يربّت المسافر على حِصانٍ أنهكه الطريق، ويزرع في قلبه بذرةَ ثباتٍ لا تُسقى بوعود الغد، بل بمرارةِ الفهم: أن لا شيء يبقى كما هو.
فإذا انطفأ الحبّ، أو كلّ الجسد، أو خان الصديق، لم يتداعَ سقفُ الروح، بل يُفتح فيه كوّةٌ أعلى تُطلّ على معنى كان محجوبًا خلف ضجيج التعلّق. إذ إنّ بعض الجراح ليست خسارة، بل دعوةٌ للترقّي؛ وبعض الانكسارات ليست سقوطًا، بل سلّمًا لا يُرى إلا بعد الألم.
وليست النجاة أن نُغمض العين عن العاصفة أو نُقنع أنفسنا بأن الغمامَ سيُشفق؛ النجاة أن نتعلّم الرقصَ في قلب الريح، أن نُبقي قدمًا على الأرض وأخرى في الهاوية، وأن نُصغي لنبضٍ داخليّ يخبرنا أنّ الهشاشة ليست نقمة، بل دليلُ حياة.
فالحياة لا توقّع عهودًا، لا تُثبت حقًا، ولا تعد بشيء. لكنها تمنح كلَّ شيء لمن أدرك سرّها: أن يمسك الأشياء بيدٍ خفيفة، وأن يترك للوهم أن يسقط دون أن يسقط معه. فمن عرف أنّ البقاء فنّ تأويل، وأن الصلابة وهمٌ، مضى في دنياه خفيفًا… كمن يرقص فوق العدم ولا يخشى أن يختفي الإيقاع.







