علي الزعتري
لا يمكنني إلا إبداء الانبهار بأساليبِ عمل المنظمات الأمريكية اليهودية التي يمتد تاريخ بعضها منذ نهاية القرن التاسع عشر. إنها تتبع خطواتٍ محسوبة مع صبرٍ لتحقيق النتائج وإيمانٍ بالنتيجة المحسومة بنظرها، كما الحديث المتداول، اعمل ليومك كأنك تموت غداً واعمل لغدك كأنك تعيش أبداً. جهودهم التي تبدو بريئةً في ظاهرها، وهي في الحقيقةِ استعماراً هدفه افتراس التراب و الفتك بالبشر، هي وليدةَ تفكيرٍ مُصممٍّ مستشرسٍ ثعلبيٍّ لإخلاء فلسطين وما حولها من أرض ميعاد و تغطية هذا العمل بادعاء العمل التطوعي الإنساني الذي في بعضه هو كذلك حقاً.
تبدأُ المنظمة عملها بمبادرةٍ من شخصٍ ما تحت عنوانٍ إنسانيٍّ دعماً لليهود عامةً، ولكن خاصةً اليهود الفقراء بفلسطين، و تنتقلُ بتخطيطٍ و فعاليةٍ متناميةَ العضويةَ والتمويل لزرعِ نفسها بفلسطين وتوسيع حضورها في أمريكا في خطوتين متناظرتين منتظرةً و عاملةً لتحويل فلسطين لإسرائيل. حتى وأمريكا خارج نطاقات الظن بانهماكها في العالم الاستعماري كانت هذه المنظمات تؤسس لمستقبل أمريكا الاستعماري الذي نراه اليوم. هي في خدمة إسرائيل المُنتَظَرةَ كما عودة المسيح والمؤسسةَ كما مملكة داود بينما جذورها تخترق الأرض الأمريكية حاصدةً الدعم في مسعىً مزدوجَ الولاء واحداً يُبَرِّرَ الثاني. نَظَّرَتْ واقتنعتْ وأقنعَتْ أن قوةَ إسرائيل قوةٌ لأمريكا والعكس صحيح، حتى في تلك الأزمان البعيدة وفي أبسط الأنشطة. في المقالة الرابعة هذه أتطرق لعددٍ منها في جُهْدٍ غير شاقٍّ للتعرف عليها فهي لا تُخفي مهماتها ولا أنشطتها ولا إداراتها. كل هذا منشورٌ لمن يريد الإطلاع بمواقعٍ جذابةٍ و ضافيةٍ تتخللها كلمةَ/دعوةَ “تبَرَّعْ” باللون المميز حاثَّةً اليهود وغيرهم جزْلَ العطاء لأنشطةِ هذه المنظمات المتشعبة لما فيه، كما دوماً تُصِّرُ، مصلحةً مشتركةً لإسرائيل وأمريكا.
تنتشر في الجامعات الأمريكية عُصَبٌ أخويةٌ للفتيان والفتيات تكون بمثابة النادي المغلق لهم بجامعاتهم و تتسَمَّى بالأحرف الإغريقيّة مستلهمةً من الحضارة الإغريقية الفلسفة والحكمة و العلم. بعضها داعرٌ وبعضها غير ذلك وكلها لها طقوس وشعائر كنتُ أراها غريبةً وفيها ضرواةً وامتهاناً لكن كثيراً من الطلبة الأمريكيين كانوا يتهافتون للانضمام لها وبعضهم يُقبلُ بعد المرور بالامتحان والطقوس الغريبة والمهينة. لكنني لم أتوقع و لم أُصادف أن يكون هناك عُصْبَةٌ أخويةٌ يهوديةٌ بأَحرُفٍ إغريقية! تأسست في عام ١٩١٣ تحت الرموز (ألفا إيپسلون پاي) و منذ تأسيسها وصلت عضويتها إلى أكثر من ١٠٠ ألف طالب. هي تأسست بغرض توفير التعليم و الموارد والتدريب لقادة المستقبل في المجتمعات اليهودية في الدول التي يعيشون فيها وهو هدفٌ يتحقق كل يوم بفضل الأعمال الأخوية و الصدقات و التوعية الإجتماعية ودعم المجتمعات اليهودية وإسرائيل للإخوة المنتمين. و إن تشيعُ العصبةُ أنها امتدادٌ للبيت اليهودي يَعِدُ برعاية الطلبة المنتمين لها في بيئةٍ مثالية فلقد نالها من الملاحقة القانونية ما نال غيرها من عُصَبٍ غير يهودية لانجراف عضويتها للمخدرات والخمور و التصرفات اللاإنسانية بينهم و تهمةً أنها لا تحترم غير اليهود. لكنها بذات الوقت تفاخرُ أن أعلاماً أمريكيين كانوا أعضاءً بها مثل مؤسس الفيسبوك مارك زوكيربيرغ و الإعلاميين مثل روبرت نوفاك مُضيفُ برنامج كروسفاير و وولف بليتزر الشهير في السي إن إن ولفيفٌ من رواد الفنون ومدراء الشركات المنتجة للأفلام الهوليودية و ثلاثةٌ من العلماء الذين حازوا على جوائز نوبل في الطب والعلوم و مؤسس شركة هوتيلز دوت كوم، آري كارب. هؤلاء هم من قادة العالم كُلٌّ في حقلِ عمله وتأثيره و هم بحسب عضويتهم في العُصبةِ مستعدون لتقديم النصيحة المهنية للأعضاء الجدد ليصبحوا قادةً هم الآخرين. أما العنصر المالي المؤثر فنجده في شراكة العصبة مع مبادرةٍ يهوديةٍ عالميةٍ تحت إسم “الوعد المستقبلي اليهودي” الذي يهدف للحفاظ على الإرث اليهودي و تعظيمه من خلال الطلب من كل يهودي راغبٍ بتوصيةٍ بأن يخصص بعد مماته نصف تبرعاتٍ باسمه (للجمعيات و الأغراض الخيرية) لهذا الوعد أو/و لدولة إسرائيل سواء كان مبلغ التبرع زهيداً أم نفيساً. هذه العصبة التي تتخذ من أمريكا مقراً و لها فروع في كندا وبريطانيا و إسرائيل تستقطب الطلبة وتؤهلهم للقيادة وتوفر لهم الإرشاد وهم حين يصبحون رواداً يستغلون ريادتهم لدعم إسرائيل كما نرى في وسائل التواصل والمنتجات السينيمائية والإعلام وغيرها من حقول علوم و ترفيه.
أما منظمة “آميت” فإن شعارها هو:”بناء إسرائيل طفلاً وراء طفل”. وهي تأسست عام ١٩٢٥ لتعليم الأطفال اليهود بفلسطين و في عام ١٩٢٧ اشترت أرضاً في القدس لبناء مدرستها الأولى. وفي عام ١٩٣٣ افتتحت مدرسةً للتعليم المهني للبنات في القدس أيضاً. لها اليوم ٤٠ ألف طالب يتعلمون في ٩٦ مدرسة في ٣٢ مدينة وتفخر أن ٩٨٪ منهم يخدمون في الجيش الإسرائيلي بينما يبلغ عدد خريجيها منذ تأسيسها إلى ٢٢٠ ألف طالب. ومثيرٌ معرفةَ أنه في عام ١٩٥٥ التحق بها أول طالبٍ يهوديٍّ أثيوبيٍّ، و أنه في عام ١٩٧٦ بدأت بتدريس علوم الكومبيوتر لطلبتها.
تقفُ منظمة “أمينو” أي “أُمَتُنا” موقفاً فيه ليونةٍ فهي عماليةٌ بأصولها وقد ورثت منطلقها من “الحلف العمالي الصهيوني” وهي تستشرف إسرائيل ديموقراطيةً تتسع لليهود و كل مواطنيها. تغطي أنشطتها مواضيع غير سياسيةً مثل حماية البيئة وتوفير الرعاية الصحية وحماية الحريات و وقف العمالة الجائرة وهي مواضيع هامة تضرب وتراً حساساً في المجتمع الأمريكي لكنها تبقى منظمةً يهوديةً عينها على المنطقة. هي تدعو لحل الدولتين والسلام بين إسرائيل والعرب من منطلق الفكر العمالي الإسرائيلي و التقدمية الصهيونية المتآلفة مع أفكار اشتراكية تحكم الحركة الصهيونية وهي لهذا غريمٌ كما تقول لليمين الصهيوني الحاكم. هي تؤمن بحل الدولتين وإنهاء الاحتلال والعدالة الاجتماعية وحماية الحريات الديموقراطية لكل المواطنين الإسرائيليين وتؤمن بالحقوق الدينية والثقافية والمساواة الجندرية و كامل حقوق اللواطيين بأشكالهم. كما تطالب باحترام كرامة اللاجئين لإسرائيل والعمالة الأجنبية وتتبنى الاستدامة البيئية والتعاون الإقليمي. ليس فيما قرأتُ ذكرٌ للفلسطينيين ولا موقفاً واضحاً حول الدولتين. كأنك تنظر لصورةٍ منقسمةٍ دون مساواةٍ واحدةٌ واضحةَ المعالم هي إسرائيل والثانيةُ غباشاً هي الدولة الثانية. وعلى النقيض من هذه المنظمة نكتشفُ “أصدقاء الليكود الأمريكيين”. منظمةٌ أمريكيةٌ “تعليميةٌ” لا تسعى للربح وتعمل مع وزراء وقادة حزب الليكود ومناصري الحزب. لديها نادٍ مقفل للجلسات الحميمية بين أعضائها الكبار و القادة الصهاينة حيث يناقشون ما لا يمكن قوله علناً وتعقد الجلسات بالتناوب بين أمريكا وإسرائيل. و الزاوية “التعليمية” في منظورها هي هذه اللقاءات و زياراتٍ لإسرائيل حين يطوفون بالسياسيين و المواقع “ذات الأفضلية لحماية إسرائيل”. ولم أن تتخيل هذه المناطق وما يُقال في الجلسات المغلقة.
ثم أتوقف عند منظمة “قِفْ معنا” التعليمية التي تدعم إسرائيل و تحارب اللاسامية والتي تُقَوِّي و تُنعِشُ في الطلبة روح القيادة على مدى مئات الكليات و الثانويات و المدارس المتوسطة بأمريكا. تأسست عام ٢٠٠١ بمدينة لوس أنجليس ولها اليوم تواجدٌ في ٦ قارات ممثلةً بأمريكا وكندا وإسرائيل و بريطانيا والبرازيل والأرجنتين وهولندا وأستراليا وجنوب إفريقيا. وهي تقول أنها ليست منظمةً سياسيةً فهدفها الدفاع عن السامية وتوعية العموم بإسرائيل تاريخاً وسياساتً. وهي لذلك وبعد ٧ أكتوبر بدأت برنامجاً للتوعية بمعاداة السامية في المدارس الأمريكية يغطي مراحل الدراسة من الروضة وللمدرسة الثانوية. ولم تتوقف عند التوعية بل تجاوزتها لملاحقة من هم ضد السامية باللوائح والقوانين والقضاء. وهي تسعى لخلق مجتمعٍ من المعلمين والتربويين لمحاربة اللاسامية و اللا إسرائيلية في المدارس لإحكام الرقابة والمجابهة والملاحقة لكل من هو ضد السامية وإسرائيل في المدارس الأمريكية. لا تتوقف “قِف معنا” عند المدارس فهي تقفز للجامعات ساعيةً وراء القيادات الطلابية لدعم إسرائيل ومحاربة اللاسامية واعدةً بتقديم الموارد اللازمة لهم. “قِف معنا” منظمةٌ تستخدم التعليم في المدارس الأمريكية لدعم إسرائيل، بكل وضوح.
وتأسست “المنظمة الأمريكية للمرأة الصهيونية” كما تنشر قبل قيام إسرائيل وتضم اليوم ٣٠٠ ألف عضوة. تعمل للمرأة و صحتها كما تقول و لإسرائيل قوية وللقيم اليهودية المزروعة في الأجيال القادمة. كالعادة، تحارب اللاسامية والكراهية في الولايات المتحدة مع نمذجةٍ مشتركة بإسرائيل. وهي فخورة بالنظام الصحي المتطور الذي خلقته وبإنجازاتها العلمية التي ساهمت في الحفاظ على الحياة في العالم. أسستها هنريتا زولد بعد زيارةٍ لها “لما قبل دولة إسرائيل” في عام ١٩٠٩ حيث شاهدت اليهود مفتقرين للرعاية الصحية و جائعين مرضى وهكذا انبرت للعمل. عند عودتها لأمريكا أنشأت المنظمة عام ١٩١٢ تحت إسمِ هداسا. و لهداسا اليوم مستشفيين عملاقين في القدس في عين كارم و جبل سكوبية وهما في قمة التقنية والعلوم والابتكارات الطبية. و قُرىً شبابيةً أنشأتها لحماية اليهود اليافعين الهاربين من الغزو النازي وتحولت بالطبع لمستعمرات. وفي عام ٢٠٠٥ نالت هداسا جائزة نوبل لتوفيرها الرعاية الصحية للجميع من غير تفرقة.
لا أحد يستطيع أن يُنكرَ القدرات العلمية التي يمتلكها الكيان الصهيوني وأن قواعد هذه القدرات زُرِعت منذ نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين بجهودٍ بدأت في الولايات المتحدة على أيدي مواطنين أمريكيين يهود امتلكوا الحلم أو علموا بصيرورته حقيقةً وعملوا على تأسيس هذه القدرات بفلسطين توطئةً لإنشاء الكيان لكي تتوفر لإسرائيل القدرة التقنية العلمية بموازاة تلك الإجرامية العسكرية التي شردت وقتلت الفلسطينيين بدايةً وانتقلت للعرب في الأردن ومصر وسوريا ولبنان والعراق واليمن وتونس والسودان وفي بلاد كثيرة طالتها التقنية هذه بالتخريب والاغتيالات. ولا تزال هذه المنظمات تعمل بنفس الميثاق ولو ساقت جدلية الدولتين ولو احتمت بالقانون الأمريكي فالهدف الأساسي لها هو حماية إسرائيل وهذه الغاية تبرر الوسيلة ومهما كانت الوسيلةَ إنسانيةَ المظهر فهي تُخفي الشر المستطير.
لنا مقالةٌ قادمةٌ إن أراد الله لنكمل سلسلةً عن أدوارِ هذه المنظمات في إطار روابط أمريكية إسرائيلية لا تنفصم.
دبلوماسي أُممي سابق