زياد خداش :يرفع سقف القصة القصيرة في التجربة الفلسطينية

حسن عبدالله

في التحضير لحلقة الكاتب زياد خداش في برنامج “عاشق من فلسطين”قمت بجولة قراءَة وتحليل لعدد من المقابلات التي أُجريت معه، وقرأت مقالات كُتبت عن تجربته، وراجعت بعض نصوصه الأدبية، عاقد العزم على استضافةٍ حوارية تحليلية مختلفة، لا تنحصر في أسئلة نمطية، كالتي لا تخرج من مربع إطار مكرر، حول ما كتب عن المرأة، أو لماذا كتب عنها بهذه الجرأة التي ذهب بها أو ذهبت به بعيداً.
ف “حنا مينه” مثلاً جسد المرأة في كل حالاتها وغاص في عمق تركيبتها النفسية والاجتماعية، فمرة كانت بطلته مغنية في ملهى، ومرة أخرى بائعة هوى، وثالثة امرأة فقيرة مسحوقة، ورابعة “شكيبة” البيضاء الجميلة “الراعية “، التي عانت حاجة ووحدة قاتلة بسبب غياب زوجها عنها، وخامسة امرأة قوية متسلطة، وسادسة امرأة شقية، وسابعة امرأة حساسة مثقفة، وثامنة امرأة مغدورة أو غدارة، وتاسعة امرأة “أم” كأمه التي تحملت وقاست من أجل أسرتها وعاشراً.. وعشرين… ومئة، ألوان من النساء، هن موجودات في الواقع، لكن خيال الأديب ولمسات المبدع وحسه وقدرته التجريدية،عناصر مجتمعة، جعلت من المرأة مخلوقاً خاضعاً لتناقضات وتجاذبات لا حصر لها.
المحافظون ـ هاجموا امرأة “حنا مينه” في كل أحوالها، واعتبروا أن جرأة “مينه” لا حيلة لمجتمع محافظ على تحملها.
التقدميون ـ أحبوا المرأة في مشروع “مينه” في كل ظروفها وأحوالها وتجلياتها، وبهرتهم جرأة الكاتب.
ممنوع أن نسأل المبدع لماذا جئت بهذا النموذج، ولماذا عرّيت داخل وخارج بطلتك، لأنه خضع للحظة إبداعية استثنائية وأتى بما أتى، فلو وضع الكاتب مقصاً على طاولته خلال عملية الكتابة، لما اتحفنا بنصوص أدبية وإنما بمقالات على مقاس “الرقيب المجتمع” أو “الرقيب الدولة” أو “الرقيب الحكومة” أو “الرقيب الاحتلال”.
لم أسأل “زياد خداش” لماذا عرض بطلاته بالصور الجريئة التي قدمها، وإنما سألته من أين يستحضر نساءَه. فقال من “تجربتي المباشرة ومن معايشتي”، فوضعت نقطة وانتقلت إلى سؤال آخر. اكتقيت،لعلمي بأن نساء خداش موجودات، أما كيف عبَّر قلمه عن أعماق نسائه، وكيف تصرفن في نصوصه، فالأمر كان رهناً لحالة إبداعية، لا دخل لنا بها. الحالة الإبداعية تكثيف للشخصي المعرفي الثقافي الفكري الاجتماعي النفسي الانفعالي؛ أي إنه يمنع علينا تجريد الكاتب من هذا المركب ليفصل لنا نصاً على مقاس مفاهيمنا الاجتماعية، التي قد تكون ليست مفاهيمه.
كان زياد في الحلقة هوهو، لم يلبس قناعاً ولم يقولب كلماته لإرضاء أحد، تحدث ببساطة المبدع الواثق من مشروعه ويعمق المبدع المنحاز حتى العظم لنصوصه. وأنا اقرأ لِ “خداش” خاصة نصوصه الأخيرة،أيقنت أن قلمه قد ارتوى نضجاً، وتغذى في التجربة ومنها حتى تدفق دم العافية سلساً قوياً في عروقه، مقدماً للقصة القصيرة الفلسطينية في هذه المرحلة تجربة كنّا بحاجةإليها ، فمن الطبيعي ألا تتوقف التجربة أو تكتفي بما أنجز سابقاً، لأن الاكتفاء يعني وصول القصة مرحلة الشيخوخة، لذلك فإن قلم خداش ما انفكّ يضخ فيها ما يضيف كيفاً لديمومة حيويتها وتطورها؛ أي إن القصة القصيرة كانت في مرحلة خداش مرحلتنا المعاشة التي تحتاج لجديد قلمه، لجديد القصة.
كان المخيم في حياته محطة طارئة، حيث يقول:ـ “عشت على أطراف المخيم، لم أتعمق فيه، لم أفهمه كما ينبغي”، وكان بمقدوره القول:ـ “لأنني عشت في المخيم في الطفولة، تأثرت به، واكتويت بنار المعاناة فيه”، ولو فعل ذلك، لتعاطفنا مع تجربته، فالمخيم يستقطب التعاطف، بيدَ أنه لم يقل ذلك، وإذا أكد أن رام الله كانت الأساس والقاعدة والحاضنة، فهل هذا يحسب له أم ضده ؟
أنا شخصياً أُعلن بكل صراحة،أنه يحسب له، لماذا ؟
أولاً: لأن خداش صرح بحقيقة وضعه، ولم يفكر في أن موقفه يرضي أو لا يرضي.
ثانياُ: إن تجربة المخيم ليست مطلقة، فقد شكلت شخصيات في سياق إيجابي وأخرى بشكل سلبي.
ثالثاً: هناك من يشعر بحنين للمخيم كمكان، وهناك من يعيش الغربة في هذا المكان، على اعتبار أنه مكان ليس أصلياً ومفروضاً وطارئاً وانتقالياً.
رابعاً: أما الذين نعموا بدفء العلاقات الاجتماعية في المخيم وأحبوا المكان، فتجربتهم تُحترم، فهم يعبرون عن تجارب شخصية، كان للمخيم فيها كلمة الفصل في العلاقات الاجتماعية والنضال والتعلم والكتابة، فقد نجح هؤلاء في التأقلم مع المكان ونأوْا بأنفسهم عن الاغتراب في المكان أو عن المكان .
ليس مطلوباً من القارئ أو المحلل أن يأخذ موقفاً من كاتب معين لأنه أحب ـ المخيم ـ المكان أو لم يحبه، وإنما من حق المتلقي أن يعرف لماذا أحب أو لم يحب، لأسباب معرفية، وربما للإحاطة أكثر بشخصية الكاتب.
إذاً المكان الحقيقي لخداش، “رام الله”، المدينة التي يجول يومياً في شوارعها وأسواقها ويتفاعل مع مؤسساتها الثقافية، مدينته التي رعت وواكبت تطور تجربته، ومدينته القاسية في بعض جوانب تجربته، فقد شهدت خيباته وأحزانه. رام الله في حنوها وقسوتها هي مكانه الذي أحب، ولايرى على وجه الكرة الأرضية مكاناً أكثر جذباً وشداً بالنسبة إليه منها.
لا يعجبني الحب المطلق أو الكره المطلق، فكل شيء في الحياة نسبي، وهذا ينطبق على الحب والكره والصداقة والتعليم والعمل. فرام الله بالنسبة إليّ كإنسان أولاً وكاتب ثانياً،هي مكاني المفضل، وعندما كتبت عن رام الله المكان، جسدته في نعومة رام الله وخشونتها، حميميتها الزائدة ووحشيتها الزائدة ـ وأشدد على “الزائدة” وليس “المطلقة”، لذلك فإنني أفهم جيداً زياد عندما يتحدث عن مفارقات رام الله ـ المكان .
خداش كاتب اقتحامي، يبحث عن الجديد في الموضوع، ويبحث عن الجديد في الأسلوب، لا يكرر نفسه، ولا يتكلّس في المستوى ذاته، يجدد ويطوِّر، قاص مجتهد، لا يكتفي بالنجاح العادي، وإنما يسعى بكل ما يمتلك من أدوات وباندفاعه التجريبي إلى التفوق.
من كتابي( خمسون تجربة ثقافية وإبداعية فلسطينية)