في خطوة مفاجئة، أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس نيته التوجه إلى قطاع غزة في خضم حرب لم تضع أوزارها بعد، ما يعني أن هذه الزيارة قد تكون محفوفة بالمخاطر، هذا في حال حظيت بموافقة جيش الاحتلال. وهي خطوة وصفها البعض بأنها نوع من الاستعراض السياسي، لكنها في الحقيقة رسالة واضحة من السلطة الفلسطينية للولايات المتحدة وإسرائيل بأنها ستضع كل ثقلها لاسترجاع سيادتها على قطاع غزة من حركة حماس، وأنها لن تقبل أن تفوت الفرصة لتكون جزءاً أساسياً من أي صفقة سياسية مستقبلية تحدد هوية الحاكم في قطاع غزة. ويمكن وصفها أيضاً بأنها محاولة دفاع شرعي عن أولوية استرجاع السلطة لمقارها الحكومية والأمنية في غزة بالوسيلة المتاحة وهي المخاطرة بالنفس.
وقد أظهرت نتائج استطلاع رأي إلكتروني، نفذته الحملة الأكاديمية الدولية لمناهضة الاحتلال والأبارتهايد الإسرائيلي، أن الأغلبية المطلقة من الأكاديميين والنخب المثقفة والناشطة، بواقع 81.1 في المئة، أيدوا خطاب الرئيس محمود عباس أمام البرلمان التركي، الذي أعلن فيه عن تصميمه زيارة قطاع غزة برفقة القيادة السياسية الفلسطينية، من أجل وقف الإبادة الجماعية التي يتعرض لها شعبه.
في المقابل، اعتبر 43.1 في المئة من المستطلعين أن هنالك صعوبة كبيرة أمام الرئيس في الذهاب إلى غزة، حيث أعلن 71.3 في المئة منهم عن شكوكهم بإمكانية أن تسمح دولة الاحتلال بهذه الزيارة أو عودة السلطة الوطنية إلى القطاع.
السلطة الفلسطينية عازمة على ملء فراغ ما بعد الحرب وتصحيح مسار انقلاب 2007، الذي قادته حركة حماس، باعتبار أن السلطة هي الممثل الشرعي للفلسطينيين في المنابر الدولية وبإمكانها الحصول على الدعم المالي اللازم لإعادة الإعمار. كما تتواصل مع الأمم المتحدة والدول دائمة العضوية في مجلس الأمن والدول العربية والإسلامية وجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي والاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي، وغيرها من الدول والقوى المهمة في العالم، ولديها إمكانية التفاوض وخطف المكتسبات من إسرائيل لصالح الشعب الفلسطيني، وبالتالي تعود للإشراف من جديد على القطاع، ثم العمل على تسكين إنساني لأهالي غزة وإنهاء مأساة الملايين أو على الأقل إجراء تسويات سياسية مع إسرائيل وحل أزمات القطاع بشكل تدريجي.
وبالعودة إلى الوراء، نرى أنه منذ عام 2007 تعاني الأراضي الفلسطينية انقساماً سياسياً وجغرافياً، ومع سيطرة حماس على قطاع غزة توالت المواجهات العسكرية وتوالت معها سلسلة الخسائر المادية والبشرية وازدادت الهوة اتساعاً ما بين الضفة والقطاع، وهو ما انعكس سلباً على القضية الفلسطينية عامة وعلى الحالة الاقتصادية والاجتماعية خاصة.
غالبية الغزيين الذين كانوا متعاطفين مع حركة حماس أصبحوا يوجهون لها أصابع الاتهام، لإقحامهم في حروب متتالية لم تتمكن من تغيير المعادلة، بل كانت وبالاً على الجميع بمن فيهم المنتفعون من الحركة، لذلك لا يمكن أن تواجه عودة السلطة إلى قطاع غزة رفضاً شعبياً ما دامت ستحقق واقعاً مغايراً لتلك السنوات التي مضت في حكم حماس والتي أنهكت الجميع.
وفي حالة عودة غزة إلى السلطة مجدداً، فقد يتوحد أبناء الشعب الفلسطيني ويعيشون تحت سقف دولة واحدة، تستطيع التفاوض بحكمة سواء مع إسرائيل أو في الخارج من أجل الحصول على مكتسبات هذا الشعب. هذا إضافة إلى إنهاء حرب الإبادة الجماعية التي تسببت فيها حماس، والتأكيد على أن دولة فلسطين ومنظمة التحرير الفلسطينية هي صاحبة الولاية والمسؤولية على أرض دولة فلسطين كافة، والعمل على استعادة الوحدة الوطنية مجدداً.
عودة غزة إلى أحضان السلطة مهمة وضرورية إذ ستساهم في التصدي لمحاولات إسرائيل بفرض الحلول الجزئية في القطاع واستمرار حالة الفصل التي دامت أكثر من عقدين من الزمن، وهي خطوة تعيد إلى مسار حل الدولتين بصيص الأمل لأنها تعيد إلى السلطة الفلسطينية حقها في ممارسة سلطتها التفاوضية على مصير قطاع غزة وعلى مصير سكانه المتواجدين فيه.
ولكي ينعم الإسرائيليون والفلسطينيون، في نهاية المطاف، بالسلام والأمن اللذين يستحقونهما بشدة، يتعين على غزة أن تعود مرة أخرى إلى جذورها، إلى مكانتها، المفترق المزدهر، وهي مكانة حظيت بها على مدى قرون من الزمن. وفي البداية، يجب وضع حد لسياسة الحصار والإغلاق، وإتاحة الفرصة للقطاع، في نهاية المطاف، للتواصل مجدداً مع بقية المنطقة. وفي الوقت نفسه، من أجل الاستفادة من الدور التاريخي الذي تؤديه غزة باعتبارها مركزاً تجارياً رئيساً، لا بد من وضع إستراتيجية منسقة لإعادة التنمية، على غرار خطة ولفنسون في العام 2005، الرامية إلى تحويل غزة من الاعتماد على المساعدات الدولية إلى تعزيز اقتصاد قائم على الاكتفاء الذاتي. وهذا هو المفتاح لتحويل القطاع إلى منطقة منزوعة السلاح تحت إشراف دولي وفي إطار حل الدولتين.