زيف الحامي

بن معمر الحاج عيسى

 

في الوقت الذي حاول فيه بنيامين نتنياهو أن يطل على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة متقمصاً دور الحامي والراعي للمسيحيين في الشرق، جاءت كلماته محمّلة ببروباغندا سقطت في لحظة صمت القاعة التي غادرها أكثر من مئة ممثل من دول العالم، تاركاً إياه عارياً أمام عدسات التاريخ، يواجه عزلة سياسية وأخلاقية لم يعد ممكناً التستر عليها بعد أن غاصت يداه في دماء الأبرياء. وفي مواجهة هذا الخطاب الذي يعيد إلى الأذهان خطابات الطغاة ومجرمي الحرب في القرن العشرين، خرج ديمتري دلياني، رئيس التجمع الوطني المسيحي في الأراضي المقدسة، ليقول بصوت فلسطيني صريح إنّ الاحتلال الإسرائيلي ألحق بالوجود المسيحي الفلسطيني دماراً يفوق ما ارتكبه تنظيم داعش في العراق وسوريا مجتمعَين، وإنّ ادعاء نتنياهو حماية المسيحيين ليس سوى افتراء سافر تقوّضه الشواهد اليومية والوقائع الموثقة. فمنذ احتلال القدس عام 1967، هاجر أكثر من ستين بالمئة من مسيحيي المدينة بسبب سياسات الاضطهاد والتمييز والإقصاء، وتحولت أحياء كاملة إلى فراغات ديموغرافية بعد أن أثقلت الضرائب كاهل الكنائس والأديرة، وطالت المضايقات حتى أقدس المعالم مثل كنيسة القيامة وكنيسة جميع الأمم، حيث حاولت السلطات الإسرائيلية أن تنتزعها من دورها الروحي الحيّ وتختزلها في مجرد رموز سياحية باردة. ولم يقتصر الأمر على الحجر بل امتد إلى البشر، إذ بات الاعتداء على رجال الدين والراهبات في شوارع القدس فعلاً يومياً موثقاً، من البصق والضرب والإهانات العلنية، وصولاً إلى منع المسيرات الدينية وتقييد موكب سبت النور بالقوة، ومنع آلاف المسيحيين من بلوغ كنيسة القيامة في انتهاك صارخ لحرية العبادة. أما في غزة المحاصرة، فقد كتب التاريخ جرحاً لا يندمل حين قصف الجيش الإسرائيلي كنيسة القديس بروفيريوس الأرثوذكسية في أكتوبر 2023، فاستشهد ثمانية عشر مدنياً مسيحياً، بينهم نساء وأطفال احتموا بجدران الكنيسة ظناً منهم أنّ قدسيتها ستحميهم، لكن الصواريخ اخترقت الحجارة كما اخترقت الضمائر. وتكرر المشهد مع كنائس ومدارس مسيحية أخرى مثل كنيسة العائلة المقدسة الكاثوليكية، التي لم تسلم من الاستهداف. ولم تقف الانتهاكات عند حدود الكنائس، بل طالت حتى المقابر التي يفترض أن تكون مكان راحة أبدية، حيث تعرّضت المقابر الأرثوذكسية والبروتستانتية واللاتينية لاعتداءات المستوطنين تحت حماية الدولة، من تكسير الصلبان إلى تدنيس القبور. وفي قرى مسيحية عريقة مثل الطيبة، أُحرقت الممتلكات واعتُدي على السكان وسط إفلات كامل من العقاب، لتتحول السياسات الإسرائيلية إلى منظومة متكاملة من التطهير الديني والثقافي. ولم تتوقف هذه السياسات على حدود فلسطين، بل تجاوزتها إلى دول الجوار، فقصف الجيش الإسرائيلي كنائس في جنوب لبنان عام 2006 وألحق أضراراً بدير مار جرجس، كما استهدف أديرة وكنائس في ريف دمشق خلال غاراته الجوية على سوريا، في رسالة واضحة أنّ المشروع الاستعماري لا يتورع عن استهداف الرموز المسيحية في المشرق بأسره. وهنا يبرز البعد الأخطر في المشهد، وهو أنّ الاحتلال لا يضرب المسيحيين وحدهم بل يقوّض الحرية الدينية لجميع الفلسطينيين، إذ يتعرض المسجد الأقصى لاقتحامات متطرفة يومية تحت حماية الشرطة، فيما تُغلق الحواجز العسكرية طرق الوصول إلى القدس أمام المسلمين والمسيحيين على السواء، محوّلة حق العبادة إلى امتياز يخضع لمزاج الاحتلال. وهكذا تتضح الصورة: دولة الاحتلال التي تحاول أن تسوّق نفسها على منابر العالم باعتبارها ملاذاً للأقليات الدينية، هي ذاتها التي دمّرت وجود المسيحية الفلسطينية أكثر مما فعل داعش في العراق وسوريا، وارتكبت بحق الكنائس والمقابر والأديرة ما لم يجرؤ التنظيم الإرهابي على ارتكابه في مناطق سيطرته. إنّ هذه الحقيقة وحدها تكفي لنسف بروباغندا نتنياهو، وتضع المجتمع الدولي أمام مسؤوليته في حماية التعدد المتجذر في فلسطين، تلك الأرض التي لم تعرف يوماً سوى التقاء الأذان مع الأجراس في سماء واحدة، وشراكة إيمان صاغت عبر قرون هوية أصيلة لا يملك الاحتلال ولا الطغاة القدرة على محوها.