سبع صفعات ترامبية لنتنياهو

جمال زحالقة

أثارت زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى المنطقة، فيما أثارته، موجة من التساؤلات والتكهنات حول حقيقة التوتّر بينه وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. وذهب الكثير من المحللين إلى أن إحجام ترامب عن زيارة إسرائيل هو مؤشّر لعدم رضاه عن سياسات نتنياهو ولاعتبارها عائقا أمام المضي في صياغة الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في الشرق الأوسط. وتعالت في تل أبيب الأصوات، التي تلوم ترامب لأنه «يهمش إسرائيل»، وارتفعت، في المقابل، أصوات أخرى تتهم نتنياهو بالمسؤولية عن هذا التهميش لأنّه، وفقها، «يفضّل مصلحته الشخصية ويضحي لأجلها بالمصالح العليا للدولة».
لقد نشر نتنياهو أجواءً من التفاؤل المفرط عند قدوم ترامب إلى البيت الأبيض، وتحدّث عن مرحلة جديدة من العلاقات وعن دعم أمريكي غير مشروط لإسرائيل في حربها على «الجبهات السبع»، وعن عدم طرح الأسئلة حول المس بالمدنيين في غزة، وحول المساعدات الإنسانية. وفعلا منحه ترامب دعما كبيرا، فملأ المخازن الإسرائيلية بالأسلحة والذخيرة من الأنواع كافة، التي طلبها الجيش الإسرائيلي، حتى تلك التي فرضت الإدارة الأمريكية السابقة حظرا عليها. وأطلق ترامب كذلك تصريحات تدعو إلى تهجير أهالي غزّة، وشدد العقوبات على الأونروا، وواصل دعم حرب الإبادة على غزة، وأرسل التهديدات إلى المحكمة الدولية دفاعا عن إسرائيل وعن نتنياهو شخصيا. واعتقد نتنياهو ومن حوله أن ترامب سيعمّق التنسيق مع إسرائيل، وسيلبّي طلباتها دون تردد. وقد صعق هؤلاء حين اكتشفوا أن الولايات المتحدة هي دولة مستقلة، لها مصالحها ولها سياساتها، التي لا تتطابق بالكامل مع تلك الإسرائيلية، وقد تكون في بعض تفاصيلها مناقضة للتوجّهات الصادرة عن تل أبيب.
لقد علمتنا التجربة التعامل بحذر شديد مع ما يطفو على السطح من خلافات بين واشنطن وتل أبيب. فكثيرا ما يجري تضخيمها من قبل أطراف لها مصالح ومآرب في منحها حجما أكبر من حقيقتها. كما أنه جرى مرارا وتكرارا احتواء مثل هذه الخلافات وعادت الأمور إلى مجاريها، كأن شيئا لم يكن، بالأخص مع غياب فعل عربي لاستغلال الوضع. هذا لا ينفي أهمية ما يبرز من خلافات بين الطرفين، خاصة أن السياسات والممارسات الإسرائيلية الإجرامية تتّكئ بكل ثقلها على السند الأمريكي. والسؤال هو: كيف ومتى يتحوّل الخلاف إلى ضغط فعلي؟ لقد حدث ذلك، مثلا، حين أجبر ترامب نتنياهو على القبول بهدنة مؤقّتة في يناير 2025، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي استغل الهدنة واستفاد منها، لم ينس «الطريقة الأمريكية» التي جرى فيها فرض الصفقة عليه، ويخشى أن تتكرر «زيارة ويتكوف العاجلة». لقد تراكمت ملفات خلافية عديدة بين نتنياهو وترامب، والمهم أنّ جزءا منها لم يقتصر على تباين في التوجهات والمواقف، بل وصل إلى حد الفعل والممارسة، وهذا أكثر ما يقلق إسرائيل ويجعل نتنياهو يحس بالخيانة من قبل ترامب. في كل الأحوال يجدر التعامل مع التوتّر بين الرئيسين الأمريكي والإسرائيلي بلا تهويل وبلا تهوين، وعدم الانجرار خلف تحليلات تضخم الخلاف وتراهن على أن ترامب سيكبس على نتنياهو ويجلب «الأمن والسلام» للمنطقة، ومن ناحية أخرى التشكيك في منطق التشكيك والاستخفاف بالموضوع وحتى الذهاب إلى أن الخلاف هو مسرحية وجزء من مؤامرة. هذا لا يعني بالطبع أن ليس هناك تنسيق واسع بين تل أبيب وواشنطن، ولا ينفي أن أشكالا من المؤامرات تحاك.

قد يصح في بعض الحالات تحجيم بعض مظاهر الخلاف العينية بين نتنياهو وترامب، لكن لا يمكن تجاهل التراكم، فقد يكون لهذا التراكم وزن فعلي لاحقا. ومع أن محاور التوتر كثيرة ومتعددة، إلّا أنه من المبكّر الذهاب إلى خلاصات واستنتاجات، خاصة أن أمامنا حالة خاصة من الارتباط، ليس لها مثيل في العلاقات الدولية، ولعلها أقوى علاقة بين دولتين على الكرة الأرضية برمّتها. كما أننا بصدد تطوّرات متسارعة وتحوّلات دراماتيكية، يصح فيها اعتماد التشخيص والتحليل، أكثر من الخلاصة والاستنتاج. ولعل أهم مدارات وبؤر التوتر، بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وتحديدا بين ترامب ونتنياهو هي الملف الإيراني، الذي تعتبره إسرائيل أكبر التحديات والمخاطر، التي تواجهها. عشية تنصيب ترامب، دأب نتنياهو على القول بأن ترامب سيكون الأفضل بشأن الملف النووي الإيراني، خاصة أنه هو الذي ألغى الاتفاق الذي توصّل إليه أوباما، الذي اعتبرته إسرائيل سيئا، ولا يضمن عدم التقدم نحو قنبلة نووية. وقد فوجئ الجميع بالرئيس ترامب يعلن في البيت الأبيض، ونتنياهو يجلس بجانبه، عن مفاوضات أمريكية – إيرانية للتوصّل إلى اتفاق جديد. كانت تلك صفعة قويّة لنتنياهو، الذي عمل على إقناع الإدارة الأمريكية بالتعاون في شن هجوم شامل على المرافق النووية، وعلى مواقع إنتاج الصواريخ البالستية في إيران. ويزداد قلق إسرائيل تبعا لتصريحات ترامب وويتكوف عن إحراز تقدم في المفاوضات، ويكاد نتنياهو «ينفلق» حين يسمع بأن دول الخليج تؤيّد الحل السلمي مع إيران، وهو الذي راهن على البعبع الإيراني لجرّها إلى التحالف والتطبيع مع الدولة الصهيونية. يبدو أن الغلبة في هذا الملف هو لأصحاب توجّه «أمريكا أوّلا» القائم على عدم التورّط في الحروب. وإذ يتهم «الصقور» هؤلاء بإضعاف الولايات المتحدة دوليا، يأتي الرد باتهام الصقور بأنهم من «المحافظين الجدد»، الذين ورّطوا الجيش الأمريكي في حروب طويلة في أفغانستان والعراق وسوريا. وقد قام ترامب بإقالة مستشار الأمن القومي، مايك وولتز، لأنه أجرى محادثات مع نتنياهو بشأن هجوم عسكري على إيران، بما لا ينسجم مع سياسة الرئيس الحالية. الواضح، إلى الآن، أن إدارة ترامب لن تنجر بسهولة لخوص حرب ضد إيران انطلاقا من أجندات إسرائيلية.
فاجأ ترامب بإعلان هدنة مع اليمن، بعد التزام الحوثيين بعدم التعرّض للسفن الأمريكية. وبغض النظر عن دوافع القرار، فإنّه شكّل صفعة ثانية لنتنياهو، الذي تباهى بأن إسرائيل والولايات المتحدة تخوضان معركة مشتركة في اليمن، وبأنّه يتفوّق على بايدن في التزامه في حماية إسرائيل من «التهديد اليمني». وذهب هو ومن حوله إلى القول بأن هذا يشكّل نموذجا لتعاون أوسع في الملف الأهم وهو النووي الإيراني، لكن ترامب خذل نتنياهو لأنه لم يطلب وقف قصف إسرائيل بالصواريخ، التي واصل الحوثيين إطلاقها. تلقّى نتنياهو صفعة ثالثة من ترامب، بعد الإعلان عن التوصّل إلى اتفاق أمريكي سعودي بشأن تشييد مفاعل لإنتاج الطاقة النووية السلمية. وكان المطلب السعودي بأن يكون لديها ما لدى إيران، وهذا مؤشّر إلى أن الإدارة الأمريكية قبلت عمليا بإبقاء المواد منخفضة التخصيب في المرافق النووية الإيرانية. ولكن ما يقلق نتنياهو أكثر هو أن ترامب مَوضَع السعودية كمركز للسياسة الأمريكية في المنطقة، فهي أوّل دولة يزورها (ولا يزور إسرائيل وهو في الشرق الأوسط). انتشار «السمعة» بأن هناك توتر في العلاقة بينه وبين ترامب، يجعل نتنياهو يشعر بالتهميش وبالحط من المكانة التي تمتع بها سابقا، حيث ظن الكثيرون أن الطريق إلى واشنطن تمر عبر تل أبيب، ويبدو الآن أن الرياض صارت أهم. ومن يريد أمرا من الإدارة الأمريكية يتوجه للسعودية وليس لإسرائيل.
وجاءت الصفعة الرابعة حين أعلن ترامب أنه سيرفع العقوبات على سوريا، وجاء ذلك بعد محاولات حثيثة من نتنياهو في الأشهر الأخيرة لإقناع الإدارة الأمريكية بعدم رفعها وحتى بتشديدها. وزاد ترامب حين التقى الرئيس السوري أحمد الشرع، بحضور ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وبمشاركة فيديو من الرئيس التركي رجب أردوغان. من البيّن أن هذا التطوّر يعاكس التوجهات الإسرائيلية، ولكن ليس واضحا بعد أثره الفعلي على الأرض. صفعة خامسة تلقّاها نتنياهو حين سافر إلى واشنطن آملا بخفض الضريبة الجمركية التي فرضها ترامب على إسرائيل، أسوة بدول العالم الأخرى، وقد فشل في ذلك، ولهذا الفشل أثر سلبي على الاقتصاد الإسرائيلي. وجاءت الصفعة السادسة، عندما نجحت الولايات المتحدة في تحرير المحتجز الأمريكي-الإسرائيلي عيدان ألكسندر، من خلف ظهر إسرائيل. جاء ذلك بعد مفاوضات مباشرة مع حركة حماس، التي يبدو أنها جعلت الإدارة الأمريكية تقتنع بأن هناك إمكانية حقيقية للتوصل إلى اتفاق لوقف الحرب وليس فقط لهدنة مؤقّتة. وهذا بالطبع يقلق نتنياهو لأنّه يتجه نحو مدّ الحرب سنة إضافية، كما قال أحد من يأخذ نتنياهو برأيهم وهو الجنرال المتقاعد يعقوب عميدرور. لكن أن يقتنع المبعوثون الأمريكيون بجدّية ما طرحته حماس عليهم شيء، وأن تضغط إدارة ترامب على إسرائيل شيء آخر.
أما الصفقة السابعة فهي تخص نتنياهو شخصيا. فهو حصل، خلال ولاية ترامب الأولى، على هدايا سياسية وازنة مثل التطبيع والاتفاقيات الإبراهيمية ونقل السفارة إلى القدس والإقرار بها كعاصمة لإسرائيل، والاعتراف بضم الجولان ووقف دعم الأونروا وغير ذلك، لقد ساعدت هذه الهدايا نتنياهو في عدم خسارة كرسيّه في ثلاث معارك انتخابية متتالية عامي 2019 و 2020. وبعد أن شعر نتنياهو ومن معه بالنشوة في أعقاب انتصار ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، واعتبروا ذلك مؤشّرا وبشرى بفوز نتنياهو في الانتخابات الإسرائيلية، أصيبوا بخيبة الأمل. أكثر ما يخشاه نتنياهو فعلا أن تضعفه سياسات ترامب «المستقلة»، وأن تخسّره كرسي الحكم في مرحلة ما.
ومع كل هذه الصفعات، تبقى العلاقات الأمريكية الإسرائيلية قويّة جدا. والخلافات قد تختفي بسرعة، إن لم تجد من يستغلها، ويبدو أن الطرف الوحيد الذي استغلها إلى الآن هو حركة حماس، التي أطلقت سراح محتجز أمريكي كبادرة حسن نيّة، وطرحت في المباحثات مع مبعوثي ترامب، حلولا ومخارج قابلة للقبول أمريكيا. والسؤال الأهم الآن، هل تلجم الولايات المتحدة إسرائيل وتمنعها من مواصلة حرب الإبادة؟ الإجابة غير معروفة الآن، خاصة وأن صوت القصف بالسلاح الأمريكي ما زال أقوى آلاف المرّات من رنين صفعات ترامب لنتنياهو.
-كاتب وباحث فلسطيني