سجون الاحتلال: مصانع الموت البطيء في زمن سقوط الإنسانيه

بقلم : م. محمد علي. العايدي

قضية الأسرى الفلسطينيين لم تعد مجرد ملف إنساني مؤجل على طاولات التفاوض، بل تحولت إلى جرح مفتوح في ضمير العالم، وإلى شهادة دامغة على سقوط منظومة القيم التي طالما تغنّت بحقوق الإنسان والعدالة. في سجون الاحتلال الإسرائيلي يُمارَس القهر بصورة منهجية، لا بوصفه تجاوزًا فرديًا أو خللًا عابرًا، بل كسياسة رسمية تُدار من أعلى هرم السلطة، ويجاهر بها وزراء وأعضاء في الحكومة دون خجل أو مساءلة، حتى بلغ الانحدار حدّ رفع شعارات المشنقة على الصدور، في مشهد يعكس عقلية انتقامية استعمارية لا ترى في الأسير إنسانًا، بل هدفًا مشروعًا للتعذيب والإذلال البطيء.

الأسرى الفلسطينيون يُحرمون من أبسط حقوقهم التي كفلتها القوانين الدولية واتفاقيات جنيف، من الغذاء الكافي، والعلاج، والزيارة، والهواء، والضوء، وحتى من الحق في النوم الآمن. الزنازين تضيق بالأجساد المنهكة، والإهمال الطبي يتحول إلى أداة قتل صامت، والتعذيب الجسدي والنفسي يمارس بأشكال متعددة، من الضرب المبرح، إلى الشبح، إلى العزل الانفرادي الطويل، إلى الإهانات اليومية المقصودة لكسر الكرامة الإنسانية. عشرات الأسرى استشهدوا خلف القضبان، لا لأن المرض استعصى، بل لأن العلاج مُنع، ولا لأن الموت كان قدرًا، بل لأنه كان قرارًا غير معلن.

الأخطر من الجريمة ذاتها هو الصمت الدولي المطبق. عالم يدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان يقف متفرجًا، بل ومتواطئًا، أمام مشاهد التعذيب والقتل البطيء. المؤسسات الدولية تكتفي ببيانات قلق باردة، لا توقف سياط الجلاد ولا تفتح أبواب الزنازين. هذا الصمت لا يمكن فصله عن ازدواجية المعايير، حيث يصبح الفلسطيني استثناءً من الإنسانية، وتُعلّق القوانين عندما يكون الجاني هو الاحتلال الإسرائيلي.

قضية الأسرى اليوم تقف عند مفترق خطير. إما أن تبقى رهينة التجاهل والتسييس، فتتحول السجون إلى مقابر جماعية صامتة، أو أن تُعاد إلى مكانها الطبيعي كقضية مركزية في الصراع، تستدعي تحركًا فلسطينيًا وعربيًا ودوليًا حقيقيًا، سياسيًا وقانونيًا وإعلاميًا. الأسرى ليسوا أرقامًا ولا ملفات أمنية، بل هم ضمير الشعب الفلسطيني الحي، وشاهد دائم على طبيعة هذا الاحتلال الذي لا يكتفي بمصادرة الأرض، بل يسعى لكسر الإنسان.

إن استمرار الجرائم داخل السجون دون محاسبة يعني أن العالم يمنح الضوء الأخضر لمزيد من التعذيب والموت. وقضية الأسرى، إذا تُركت وحيدة، ستتحول إلى وصمة عار أبدية في سجل الإنسانية جمعاء، لا في سجل الاحتلال وحده. هؤلاء الأسرى لا يطلبون شفقة، بل عدالة، ولا ينتظرون بيانات تضامن، بل موقفًا يوقف الجريمة ويعيد للإنسان الفلسطيني حقه في الحياة والكرامة والحرية