بات جليًّا حرص وسعي نظام الملالي في إيران إلى الهروب من خيار المواجهة المباشرة مع إسرائيل، ومن خلفها الولايات المتحدة، نحو العودة إلى سياسة الحروب بالوكالة. فقد بدأت نبرة أصوات ميليشياتها في الإقليم بالعلو، والتهديد بقرع طبول حروب أهلية، في محاولة من قبل نظام علي خامنئي لخلط الأوراق في منطقة الصراع المحتدم منذ أشهر، بهدف تحقيق حدٍّ أدنى من مصالح إيران، التي ترى في لبنان ساحة مواجهة عبر ذراعها الميليشياوي، يحقق خرقًا تفاوضيًا إقليميًا. لذلك رأينا نعيم قاسم يخرج ببقايا ظل حسن نصرالله، معلنًا تحدي الدولة اللبنانية ومؤسساتها، وضاربًا عرض الحائط بسلطتها وشرعيتها.
تساوق نعيم قاسم لجرّ لبنان نحو أتون حرب أهلية جديدة، غير آبه بعواقبها الكارثية على وحدة البلد وأمن مواطنيه ومستقبله، يؤكد ما كنتُ قد توقعته سابقًا من سيناريو في غزة، عندما كتبت على صفحات “العرب” مقالًا بعنوان “الاقتتال الداخلي.. خطة حماس لإبقاء حكمها في غزة”، بأن هذا السلاح الميليشياوي لم يكن يومًا من أجل محاربة إسرائيل، بل لمحاربة الشعوب العربية المقهورة. ومجدّدًا، فإن السلاح الذي لم يصمد أمام الترسانة العسكرية الإسرائيلية، هدفه الحقيقي هو إخضاع الدول لتكون في خدمة أجندات إقليمية إيرانية.
أضحت فرضية الحروب الأهلية في ما كان يُسمّى عواصم النفوذ الإيراني، خطة وهدفًا لنظام طهران للخروج من مأزقه، وحالة انسداد الرؤية التي توجتها تداعيات الصراع بحرب الاثني عشر يومًا، والتي أنهكت قوى إيران وقدراتها، بعد خسارتها للساحة السورية التي كانت بمثابة بيضة القبان في محورها. فلم يستوعب نظامها بعد هزيمة مشروعه، وانهيار أوراق قوته.
المعضلة الأخطر منذ انتهاء الحرب الخاطفة بين تل أبيب وطهران تتمثل في بقاء العقلية الإيرانية في إطار التضحية بالشعوب العربية في سبيل الحفاظ على رهاناتها، التي بقيت متماسكة في ظل عدم حسم سير الصراع لصالح الطرف الأقوى، أو عدم توجيه ضربة قاصمة للنظام الإيراني وتحييد رأسه بسيناريو اغتيال، كما جرى مع بعض رؤوس ميليشياتها. ما فتح هامش التمادي لطهران بإعادة تموضع أذرع محورها، والذهاب نحو مقاربات متطرفة في سبيل تحقيق مكاسب من إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي يدرك أن الواقع الملموس على الأرض مغاير تمامًا لضجيج التهديدات التي يبرع بها أركان النظام الإيراني المأزوم.
لا يمكن إغفال استفادة إيران من حربي الولايات المتحدة على أفغانستان والعراق، وقدرتها سابقًا على تجيير مجرياتهما لصالح بناء محور عابر للحدود في دول المنطقة، منحها سطوة سياسية استطاعت بها فرض مقارباتها في كل من بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء. أما اليوم فالمشهد مخالف تمامًا، إذ ينازع ساسة نظام الملالي لتجاوز هزّات الصراع وارتداداته بخيار محدود، قائم على إعادة فرض ميليشياتهم بقوة السلاح الموجّه ضد الشعوب العربية، التي كانت ولا تزال وقودًا لمشاريعهم التوسعية تحت وهم مسمّيات “الطريق إلى القدس” و”كربلاء جديدة”.
اليوم، الرهان على قوة المشروع العربي المتكامل في كلٍّ من سوريا ولبنان، ومدّ السلطتين الجديدتين بسبل الاستمرارية في الدفع نحو إنهاء رواسب النفوذ الإيراني العالقة داخل مفاصل مؤسسات الدولتين، لتبقى مفاهيم الدولة الوطنية، المتجسدة بقانونها وسلطتها وسلاحها الواحد، مفتاح استقرارهما، استعدادًا لنقل التجربة لاحقًا إلى كلٍّ من العراق واليمن، لنشلهما من المستنقع الإيراني الضحل.