السياسي –
غسل أموال، تجارة أعضاء بشرية، متاجرة بالمخدرات، وإساءة للأخلاق والقيم. هذه ليست عناوين أفلام سينمائية أو مقالات صحفية، بل جرائم حقيقية ارتُكبت تحت لافتة «المحتوى الترفيهي» الذي يتابعه الملايين.
هذا ما كشفته الحملة التي شنتها السلطات المصرية خلال الأيام الماضية على مشاهير «تيك توك» في مصر، وأسفرت عن حقائق صادمة، وجرائم مهولة، تهز الضمير قبل أن تهز المشهد الإعلامي والاجتماعي.
كانت الشهرة قبل سنوات تحتاج موهبةً، وتحتاج سنواتٍ من الحفر في الصخر، أما اليوم فلم تعد تحتاج موهبةً، أو علماً، أو إنجازاً يخلّده الناس. كل ما تحتاجه هو «ترند» واحد يصبح الإنسان بعده مشهوراً، فقد أصبحت الشهرة في متناول كل من يجيد إثارة الضجيج، واستفزاز الفضول، وإلغاء العقول، وتجاوز الخطوط الحمراء لتقديم محتوى تافه.
الأدهى أن كثيراً من هؤلاء، الذين يسميهم البعض «مؤثّرين»، لم يكونوا قبل شهور سوى أصحاب مهن بسيطة، بالكاد تؤمّن لهم قوت يومهم، فإذا بهم يمتلكون الملايين، ويسكنون الفيلات الفخمة، ويقتنون السيارات الفارهة من أغلى وآخر الموديلات، في قفزة تثير الريبة أكثر مما تثير الإعجاب.
ما يبعث على الأسى أن هذه الظاهرة لم تأتِ من فراغ. فقد وجدت تربة خصبة في بيئة رقمية مفتوحة، وغياب وعي مجتمعي كاف لدى الجمهور، وبخاصة الفئات الشابة التي أصبحت تستهلك هذا المحتوى دون تمحيص.
فالمقاطع القصيرة التي تثير الضحك أحياناً، وتكسر الحواجز الأخلاقية غالباً، لم تعد مجرد تسلية، بل صارت أدوات لجذب المتابعين، ثم استغلالهم، سواء في ترويج سلوكيات منحرفة، أو تمرير رسائل مدمرة.
والحقيقة أن مسؤولية مواجهة هذه الظاهرة لا تقع على عاتق السلطات وحدها، رغم أهمية دورها في فرض القانون وردع المخالفين، بل تمتد إلى المجتمع بكل مؤسساته.
فالإعلام مطالب بأن يقدم محتوى بديلاً يجذب الشباب بلغة قريبة منهم، والمدارس والجامعات مطالبة بغرس الوعي الرقمي، والأسر مطالبة بمتابعة ما يشاهده أبناؤها ومناقشتهم فيه دون قمع أو تسفيه. كما أن شركات التكنولوجيا ومنصات التواصل الاجتماعي تتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية، فهي التي تفتح الباب لهذا المحتوى، وتسمح له بالانتشار، وتستفيد من عوائده المالية.
لقد تحوّل كثير من مشاهير الإعلام الاجتماعي إلى مناشير تقطّع أوصال المجتمع، وأصبح معيار النجاح هو عدد المشاهدات، لا جودة الرسالة. وفي سباق محموم وراء «الترند»، تتم التضحية بالقيم، وتحل الألفاظ الخادشة للحياء محل اللغة الرصينة.
من هنا، فإن المعركة ليست مع أشخاص تجاوزوا القانون فقط، بل مع ثقافة بدأت تتسرب إلى عقول الأجيال، وتعيد تشكيل مفاهيم الشهرة والنجاح. ففي بث مباشر لإحدى المقبوض عليهن تحتفل صاحبة البث، البالغة من العمر 18 عاماً، بنجاحها في الثانوية العامة بنسبة 50 % بعد رسوب متكرر.
وخلال البث تنهمر عليها الهدايا، فتتمكن من جمع مليون جنيه في 3 ساعاتٍ فقط! هذه «التيك توكر» الصغيرة وجدت السلطات في حسابها 15 مليون جنيه مصري، ويتم التحقيق معها الآن بتهمة غسل الأموال. هذا مثال واحد فقط، ولكل مشهور ومشهورة من المقبوض عليهم قصص أكثر غرابة.
كمية الأموال والذهب والعقارات والسيارات الفارهة التي أصبح يمتلكها هؤلاء، الذين كانوا يمارسون مهناً بسيطة قبل أن يصبحوا مشاهير، تثير أسئلة عديدة عن مصدر هذه الأموال، وعن دورها في إغراق المجتمع بالفساد، وخلق جيل يحاول التشبه بهم.
النماذج التي قدمها لنا نجوم «تيك توك» المقبوض عليهم لا تمثل المجتمع المصري الذي عرفناه على مدى عقود من الزمن؛ مجتمع طه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وفاروق الباز وأحمد زويل وأم كلثوم وعبدالوهاب، وغيرهم من نجوم العلم والأدب والفن الراقي، وليس مجتمع نجوم «تيك توك» الذين أعف عن ذكر أسمائهم حفاظاً على ذائقتكم السمعية.
لذلك أعتقد بأن تدخل السلطات المصرية لتصحيح الصورة وتنظيف الفضاء الإلكتروني كان ضرورياً، وإن كان قد تأخر قليلاً، فأن تأتي متأخراً خير من ألّا تأتي أبداً.
إن ما كشفته الحملة المصرية يمثل جرس إنذار لكل المجتمعات العربية، التي لا تخلو من نماذج سيئة أيضاً، لأن هذه الظاهرة لا تعرف حدوداً جغرافية. وما لم يبادر الجميع إلى وضع استراتيجيات شاملة للمواجهة، فسوف نجد أنفسنا أمام جيل يقيس قيمته بعدد المتابعين، ويبحث عن الشهرة بأي ثمن.
علي عبيد الهاملي – البيان