يحدثنا ابن خلدون في مقدمته الخالدة، التي هي أكثر من كتاب في التاريخ وأقرب إلى نبوءة فلسفية، عن سنن العمران ومآلات الدول، فيقرر بحكمة الرائي ووعي المؤرخ أنّ الحضارة، مهما بلغت من الثراء والتمكّن والعلم، إنما تسير نحو أفولها ساعة تتهاوى قيمها الأخلاقية، وتفقد توازنها بين القوة والضمير، بين المادة والروح. فحين يتقدّم البناء العمراني وتتراجع المروءة، وحين تتعاظم السلطة ويضمحلّ العدل، يبدأ في جسد الأمة تحلّل خفيّ، لا تراه العين في البدايات، لكنه ينخر في العصب حتى يسقط الهيكل من الداخل.
ولقد كان ابن خلدون، في عمق رؤيته، يؤسس لما يمكن أن نسمّيه «علم سقوط القيم»، إذ أدرك أنّ الانهيار الأخلاقي هو الوجه الخفي لانهيار الاقتصاد والسياسة والفكر، وأنّ الأمم لا تُهزم إلا بعد أن تهزم نفسها أخلاقياً. فبقدر ما تُهزم القيم، يُهزم الإنسان في جوهره، ويغدو التاريخ سلسلة من الأضواء الخافتة بعد احتراق الشعلة الكبرى.
وبعد قرون، يأتي المؤرخ الأميركي بول كينيدي ليؤكّد بلسان العصر الصناعي ما قاله ابن خلدون بلغة الرمل والدم والعصبية. ففي كتابه صعود وسقوط القوى العظمى، يربط كينيدي بين ازدهار الإمبراطوريات وتماسك منظومتها الأخلاقية والفكرية، ويُحذّر من لحظة الطغيان التي تغري الأمم القوية بعبادة ذاتها ونسيان إنسانيتها. إنها اللحظة التي يتحول فيها التفوّق إلى عبء، والرفاه إلى فساد، والعلم إلى آلةٍ لقتل المعنى.
ثم يجيء نعوم تشومسكي، الناقد الاجتماعي والفيلسوف اللغوي، ليُسفِّر عن وجه الحضارة المعاصرة بلا مساحيق. يرى أن الخطر الحقيقي ليس في الأسلحة ولا في الأزمات الاقتصادية، بل في تسليع الوعي، وفي تحويل الإنسان إلى مستهلكٍ مُفرغٍ من الإرادة، تقتاده الإعلانات كما تقتاد الجموعُ المهيّجة إلى أسواقها. إنه سقوط القيم في أبهى صوره المقنّعة؛ سقوط باسم الحرية، وتشييء باسم التقدّم.
وإذا جمعنا هذه الأصوات – من ابن خلدون إلى كينيدي إلى تشومسكي – ألفيناها تتناغم رغم المسافات والزمن واللغة، لتقول لنا إنّ الحضارة لا تموت قتلاً، بل تذوي اختناقاً؛ وإنّ ما يسقط أولاً ليس الأسوار ولا الجيوش، بل الضمير الجمعي الذي يربط الفرد بالمعنى والحقّ والجمال. فحين يتحوّل الإنسان من ذاتٍ خالقة إلى رقمٍ في حسابات السوق، وحين تُختزل الأخلاق إلى ذرائع للمصلحة، يكتمل الجفاف في جذور الوجود.
لقد علّمنا ابن خلدون أنّ التاريخ يُعاد بثيابٍ مختلفة، وأنّ صوت الضمير الإنساني هو العلامة الوحيدة على نبض الحضارة. فكلّما خفت صوته، ازداد ظلام العالم اتساعاً. ولعلّ ما نعيشه اليوم من اضطرابٍ في القيم، وتيهٍ في المفاهيم، ليس سوى تكرارٍ للمشهد الخلدونيّ الأخير، حين تستنفد الحضارة أسباب بقائها وتنتظر من يكتب مرثيّتها القادمة.





