سقوط حركة 23/ شباط في حزب البعث والمأزق الطائفي للحركة التصحيحيّة

د. عدنان عويّد

الحلقة الرابعة:

بعد عام من قيام حركة 23 / شباط, قامت حرب حزيران التي تركت أثارها السلبيّة واضحة على الحزب ومسيرته وخاصة في مجال تبادل الاتهامات والتآمر مع العدو الصهيوني, وأخص هنا الاتهام الذي وجه لحافظ الأسد حول مسألة طبريّة وإعلان الانسحاب وغير ذلك. مثلما واجه الحزب ضعف البنية التنظيميّة والفكريّة التي بدأت منذ استلامه السلطة, واستمر هذا الضعف وهذه الهشاشة في مسيرة الحزب إلى حد كبير حتى مع وصول تيار 23/ شباط إلى السلطة, وقد ساهم في هذا الترهل الفكري والتنظيمي حل الحزب نفسه عند قيام الوحدة 1958, ثم بسبب موقف القوى اليمنيّة السلبي داخل الدولة والمجتمع السوري بعد قرارات التأمين وهذا ساهم في عرقلة مسيرة الحزب, إضافة للتطرف اليساري الذي انتهجته قيادة  حركة 23/شباط اتجاه الدين وشيوخ العشائر والقبائل والطوائف, و تهميش أو إقصاء القوى السياسيّة المتواجدة في الساحة آنذاك كما بينا سابقاً, وبالتالي تأليب هذه القوى المناوئة مجتمعة لخط الحزب ونهجه السياسي والاجتماعي, حتى كاد الحزب أن ينعزل عن الجماهير, الأمر الذي أدى إلى ظهور صراع بين قيادات الحركة ذاتها وخاصة بين جناحي الحزب المدني والعسكري, حيث كان هناك من أراد تهميش الجيش, أو الحد من سطوته داخل الحزب. كل هذا وغيره من عوامل أخرى كانت وراء قيام الحركة التصحيحية التي قال بيانها بأن الحزب قد انحرف عن خطه الصحيح وابتعد عن الجماهير, ولا بد من عودنه إلى جادة الصواب فكريّاً وسلوكيّا, وأهمها عودته إلى الجماهير.

الحركة التصحيحية في الثالث والعشرين من تشرين الثاني 1970:

إن أهم ما حققته المنطلقات النظريّة في المؤتمر القومي السادس في الجانب السياسي, هو رسم ملامح التوجهات الثوريّة القائمة على مبدئي العلميّة والثورية كما بينا في موقع سابق, حيث رُسمت الخطوط الاستراتيجيّة لبناء دولة تبنت الوحدة والحرية والاشتراكية طريقاً لها, والأهم من ذلك تحييد الدين, وعدم التطرق له في هذه المنطلقات. بيد أن الحزب راح شيئا فشيئا يتحول إلى دولة شموليّة بعد ممارسته السلطة والانغماس في شهوتها, وذلك عند تطبيق ما أقرته المنطلقات النظريّة فيما يخص محاربة (الديمقراطيّة الليبراليّة) التي سمتها بـ (الديمقراطية البرجوازيّة), والسير عمليّاً وفكريّاً على توجهات الخط أو الطريق الاشتراكي في قيادة الدولة والمجتمع.

إن رفض الديمقراطيّة الليبراليّة, التي تعني في مضمونها التعدديّة السياسيّة, وتبادل السلطة, والبرلمانيّة, والمواطنة, ودولة القانون, وبالتالي تبني الحزب ما سمي بالديمقراطيّة الشعبيّة, على اعتبار أن هذه الديمقراطيّة ستقوم عبر قيادة المنظمات الشعبيّة والنقابات المهنيّة وغيرها بقيادة الدولة والمجتمع, وهي من سيحقق للشعب رفاهيته والدفاع عن حقوقه والعمل على تنمية هذه الحقوق, وتحقيق تطور الدولة والمجتمع معاً بعيداً عن أيّة وصاية, وخاصة وصاية القوى الرجعيّة التي كانت تستغل هذا الشعب من خلال المجالس البرلمانيّة قبل الثورة, وهذا يعني من الناحية ّالفكريّة والعمليّة معاً تحقيقاً لمبدأ قيادة الحزب لهذه (المنظمات والنقابات والاتحادات) من خلال مؤسسات الدولة والمجتمع. وبذلك يكون الحزب قد سدّ الطريق أمام بقيّة قوى الشعب غير البعثيّة في تداول السلطة, أو حتى التفكير في الوصول إليها.

مع وصول الراحل “حافظ الأسد” إلى السلطة عام 1970, استطاع أن يستثمر مسألة الديمقراطيّة الشعبيّة كما وردت في المنطلقات النظريّة للحزب ومحاربة الليبراليّة خير استثمار لإعادة بناء الحزب والدولة الشموليّة معاً كما يريد أو يخدم مصالحه السلطويّة, إذ عمل على أنشاء العديد من المنظمات الشعبيّة والنقابات المهنية والاتحادات, وفقاً لتوجهات المنطلقات النظريّة ذاتها كا بينا أعلاه, إلا أن حافظ الأسد استطاع فيما بعد أن يحولها إلى حزام ناقل للسلطة, أي لخدمته وتثبيت سلطته, بعد أن أفرغ الكثير من محتواها الديمقراطي والثوري, والدور الذي رسمه لها الحزب في المنطلقات النظريّة, كما عمل على تأسيس الجبهة الوطنيّة التقدميّة من بعض الأحزاب التي عاصرت نشاط الحزب قبل استلامه السلطة مثل الحزب الشيوعي السوري, والقوى الناصريّة, إلا أنه استطاع إضعاف هذه الجبهة بعد تشكلها من خلال تفتيتها إلى أحزاب عديدة بعد أن مارست قياداتها شهوة السلطة. وأوجد دستوراً دائماً للبلاد عام 1973, قرر أو شرعن عبره اعتبار حزب البعث قائداً للدولة والمجتمع, وضمن بذلك دستوريّاً استمراريّة ترشحه بشكل دائم للرئاسة, كما أوجد مجلساً للشعب أعطى فيه النصف زائد واحد للحزب والمنظمات تحت مظلة (العمال والفلاحين), ويكون بذلك قد ضمن المسألة التشريعيّة لصالحه أيضاً, بيد أن الأهم من كل هذا وذاك هو منحه صفة قائد المسيرة الذي أقره الحزب في مؤتمره القطري الخامس المنعقد عام  1971, والذي أعطاه السلطة الكاملة على الحزب والدولة, مؤكداً هذا المؤتمر على أهميّة شعار قائد المسيرة في تلك المرحلة كما جاء في بيان المؤتمر القطري الخامس : (إن الأمين العام للحزب الرفيق حافظ الأسد يبرز في هذه المرحلة وفي هذه الفترة الراهنة بالذات, القائد الذي تتطلع إليه الجماهير العربيّة كلها, وتجد في قيادته الأمل الحقيقي في مواجهة التحديات التي تتعرض لها قضيّة الأمّة العربيّة.) (11). وبذلك  يكون حافظ الأسد قد ثبت ودعم كل سلطاته كأميناً عاماً للحزب على المستويين القومي والقطري, ورئيساً للجبهة الوطنيّة التقدميّة, ورئيساً للجمهوريّة, وقائداً عاماً للجيش والقوات المسلحة, ومع منحه قيادة المسيرة, يكون الحزب قد أكد مبدأ الستالينيّة في مسألة (قيادة الفرد), وهو الحزب الذي وقف ضد هذا المبدأ في المنطلقات النظرية عندما بين أهمية دور الفرد في التاريخ, بعيداً عن أي تفرد بالسلطة, أو تجسيداً لمبدأ عبادة الفرد.

في بداية الحركة التصحيحيّة استقبلت الجماهير بترحاب كبير هذه الحركة, وخاصة القوى السياسيّة التي عمل الحزب على إقصائها, كالناصريين والشيوعيين والإخوان, حيث اعتقد كل هؤلاء أن الحزب قد انتهى وبدأت مرحلة جديدة في حياة سوريّة.

أما على مستوى حزب البعث, فقد خرج من الحزب تيار صلاح جديد, الذي اعتبر أن حافظ الأسد قد قام بانقلاب عسكري ضد الحزب, الأمر الذي دفعه لوضع قادة حركة 23/ شباط في السجن لمدّة ربع قرن تقريباً, أما بقيّة البعثيين الذين لم يتركوا الحزب, فقد راح يختار منهم العديد من الشخصيات الضعيفة في المناصب القياديّة للحزب والدولة, إضافة إلى منح قوى الأمن صلاحيات واسعة في مراقبة الدولة والمجتمع وعناصر حزب البعث ذاته, حتى استقرت له الأمور داخل الدولة والحزب معا.

لا شك أن حافظ الأسد استطاع خلال السنوات الأولى من سيطرته الشموليّة على الدولة والحزب, يمارس سياسة (شعبويّة) انعكست إيجاباً لحد ما على الدولة في سورية, وخاصة في مجال الخدمات, لقد بنى قاعدة اقتصاديّة وخدماتيّة وعسكريّة وتعليميّة خدمت المواطن السوري, رفعت من شأن سوريّة عربيّاً واقليميّا ودوليّاً, حتى راح الكثير من الانتهازيين والوصوليين والمطبلين يعرفون سوريّا باسم (سورية الأسد), وهذه التسمية تجلت واضحة في أسماء الكثير من المشاريع التي أنجزت في عهده, كسد الفرات وغيره من سدود عديدة على مستوى مساحة القطر استطاعت أن تحقق الأمن الغذائي كما قان بإنشاء العديد من المشافي والجامعات والمعاهد التعليمية والمدارس وإيصال الكهرباء إلى الريف, وبإنشاء حدائق وبناء مصانع وساحات عامة وطرق مواصلات بين محافظات القطر وغيرها, فمعظم هذه الإنجازات سميت باسم الأسد وآل الأسد. هذا في الوقت الذي غاب فيه بناء الإنسان ذاته معرفيّا, والأهم تغيب مفهوم الانتماء للوطن, ليصبح الانتماء يوجه نحو القائد الملهم كما سيمر معنا لا حقاً.

رغم كل ما قام به الأسد من أجل دعم شرعيته وتثبيت أركان حكمه, لم تكن الأمور تجري على هواه, بسبب انتمائه لطائفة من الأقليات الدينيّة في سورية وهي الطائفة العلويّة التي راح يرتكز عليها في حكمه وينمي التوجه الطائفي عبرها, وخاصة في مجال الجيش, فكانت الاحتجاجات على فقرة دين رئيس الجمهوريّة عند صياغة الدستور بداية الرفض لحكمه, ثم جاءت احتجاجات حماة, والإخوان التي كانت دلالاتها واضحة في أحداث ثمانينيات القرن الماضي, وكانت حادثة (كليّة المدفعيّة) في حلب مؤشراً على أبعاد هذا الحدث من الناحية الطائفيّة, التي امتدت أذرعها إلى الشارع الاجتماعي والسياسي, والتقى فيها اليمين واليسار والوسط معاً ضد حكمه. فأمام هذا التحدي لسلطة حافظ الأسد التي غلب عليها الطابع الطائفي, بدأت مأساة سورية الحقيقة مع الفكر السلفي, خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي, وقيام الثورة الإسلاميّة في إيران في نهاية ثمانينيات القرن الماضي, وبدء تحرك الإسلام السياسي داخل سورية وخارجها.

كاتب وباحث من سوريّة

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

11-   – حزب البعث العربي الاشتراكي- القيادة القومية –مكتب الثقافة والدراسات والإعداد – سلسلة الإعداد الحزبي رقم -24. ص4.

المؤتمر القومي السادس لحزب البعث 1963 وتجربة اليسار الطفولي للحزب

 

السمات الفكريّة لحزب البعث في منظور مشيل عفلق

حزب البعث ما بين العفلقيّة والسلفيّة.

تابعنا عبر: