تعتبر ثقافة التهجين والتجهيل, من أهم الوسائل التي تستخدمها القوى المستغلة والمستبدة لشعوبها أولا, ولشعوب غيرها ثانياً, وبأي شكل من الأشكال الاستغلال والاستبداد, سياسيّة كانت, أو اقتصاديّة, أو اجتماعيّة أو دينيّة أو غيرها. وذلك بغية السيطرة على الجماهير ونمذجتها وتذريرها وتحريكها وتفجير غرائزها وإقصاء عقولها وفقاً لمصالح هذه القوى المستغلة. هذا وتعتبر من أبرز سمات وخائص هذه السياسة برأيي التالي:
أولاً: زرع روح الامتثال والرضا لكل ما هو قائم, والتسليم والرضوخ لكل ما هو غيبي وغير عقلاني, وغريزي على أنه أمر مقدر بهذا الشكل أو ذاك ولا مناص أو الهروب منه.
ثانياً: تغييب مسألة الانتماء الحقيقي للوطن والمواطنة, وتبديله بانتماءات ثانويّة, دينيّة أو عرقيّة أو حزبيّة وغير ذلك من الانتماءات الضيقة أو الفضفاضة. أي تشجيع الانتماء للعقيدة (الأيديولوجيا) الدينيّة أو الوضعيّة أو للحزب أو للطائفة أو للقبيلة أو للبطل الديني أو السياسي أو الاجتماعي,(السلبي أو الايجابي) كقائد الحزب, أو رئيس الدولة أو شيخ العشيرة أو القبيلة أو الطائفة أو المذهب أو الطريقة الصوفية. وهذا في الحقيقة ما يجعل حياة الفرد والمجتمع في كل مفرداتهما, عبر سيرورتهما وصيرورتهما مرتبطة بفقه هذا القائد السياسي أو الديني أو الاجتماعي من جهة, أو تكون هذه الحية في سيرورتها منمذجة بشكل مسبق, ومحددة بقوالب جامدة وكأنها قدر لا مناص للخلاص منه كما قلنا.
وعلى هذا الأساس لا تعود الثقافة هنا, نشاطاً عقلانيّاً تنويريّاً يتفاعل مع السياسة والمجتمع على اعتبارها فعلاً جماهيريّاً, تلعب فيه دور الموجه لسياسة الدولة والمجتمع معاً بما يخدم مصالح الدولة والمجتمع والفرد ككل. بل تصبح الثقافة فعلاً نخبويّاً انتهازيّاً, تغرد فيه النخب المثقفة من تجار الكلمة والوجاهة والمال بكل اتجاهاتها دينيّة أو وضعيّة, عبر وسائل الإعلام وًدُوْرِ الثقافة والعبادة, لمصلحتها ومصلحة السلطة الحاكمة فقط.
أو بتعبير آخر: يلتقي في مثل هذه الحالة ما هو سياسي مستبد ومتفرد بالسلطة, مع ما هو ثقافي نخبوي انتهازي على مساحة ضيقة, لا يُمارس النشاط السياسي والثقافي فيها إلا فئة صغيرة من المجتمع, هي وحدها من يقرر طبيعة النشاط الثقافي ودوره وأهدافه وبالتالي استهلاكه, انطلاقاً من الموقف السياسي أو الأيديولوجي الذي تتمتع به هذه الفئة الضيقة ومصالحها ومصالح أسيادها كما أشرنا أعلاه.
عقلنة الثقافة:
من هذا المنطلق تأتي الدعوة إلى عقلنة الثقافة وشعبنتها.
أي تحويل الثقافة إلى:
أولاً: إلى جعل الثقافة فعلاً أو نشاطاً جماهيريّاً إيجابيّاً عقلانيّاً تنويريّاً, بعد تجريدها من لبوس عالم السياسية والأيديولوجيا وسلطاتهما المقدسة وانتهازيّة نخبها المثقفة.
وثانياً: الدعوة إلى جعل الثقافة فعلاً ثوريّاً, يجعل من التاريخ والتراث نفسيهما ثقافة عقلانيّة نقديّة, تنطلق من (استلهام) المواقف الإنسانيّة في هذا التراث دون الخضوع لسلطته وتقديسه. أي استلهام ثقافة (المواطنة) بدلاً من ثقافة العشيرة والقبيلة والدين والمذهب والطائفة والحزب والملك والأمير والبطل الملهم. وبذلك لا يعود التاريخ ومكوناته التراثيّة أو الثقافيّة منطلقاً لصراعات ماديّة أو فكريّة بين مكونات الشعب, أو بين الشعب والسلطة الحاكمة. بل جعلهما (التاريخ والتراث) قوة حيويّة يبرز فيهما كل ما هو عقلاني يدعوا إلى التقدم وتحقيق إنسانيّة الإنسان.
إن الثقافة في هذا السياق العقلاني النقدي والتنويري تتحول إلى:
أولاُ: ثورة حقيقيّة تعمل على تحويل إنتاج المعرفة من المنطق الصوري التجريدي والمثالي الذاتي والبراغماتي السلبي والفقهي السلفي الجمودي التكفيري ممثلاً بفرقته الناجية, أو الصوفي الإيهامي وطبله ومزماره الرافض للواقع وتأثيره على حياة الفرد والمجتمع, والعيش في عالم الروح والاشراق والتوهم والخيال, أو من منطلق عقليّة النخب الثقافيّة الوضعيّة الانتهازيّة التبريريّة, إضافة إلى كل ما تبشر به السلطات الاستبداديّة من ثقافة الامتثال والتجهيل وتسطيح العقول وتعميم ثقافة الوعظ والذاتيّة والارتجال والثرثرة الثوريّة. إلى فعل ثوري عقلاي نقدي تنويري تظل مصالح المجتمع بكل مكوناتها هي هدف هذه الثقافة. أي ثقافة ضد الجهل والتجهيل, والاستبداد, والتفرد بالسلطة, واحترام الرأي والرأي الاخر, والمرأة, أو ما نستطيع تسميتها بثقافة المواطنة ودولة القانون والمؤسسات والتشاركيّة.
ثانياً: ومن حيث المنهج تصبح ثقافة المنطق والبرهان الاستكشافي, القائم على الاستقراء والاستنتاج والاستدلال والتجربة والتحليل والاختبار والشك والجدل, وصولاً إلى البرهان, وكل ما يعطي الفرد والجماهير دورهما في ممارسة حقهما الطبيعي في صناعة الحياة.
وبذلك تكون الثقافة قادرة على:
آ: تحطيم سلطة الحاكم المستبد ودولته الشموليّة ونخبه الثقافيّة المؤدلجة الدينيّة منها والوضعيّة.
ب: وتكون قادرة عبر حواملها الثوريين العقلانيين التنويريين الملتزمين بالإنسان وقضاياه المصيريّة, وبمنطق الدولة والمجتمع القائم على دولة المواطنة والقانون, على نزع قدسية الأشخاص والتراث وأفكار وسلطة السلف الجموديّة الجبريّة, وفقه القادة, وكل من لازال يعيش على إعادة إنتاجها خدمة لمصالحه الأنانيّة الضيقة مهما كانت طبيعتها.
كاتب وباحث من سورية
d.owaid333d@gmail.com