الأخبار اليومية الآتية من سوريا مخيفة. ما احتُسِب إنجاز أثناء معركة تحرير البلاد، وبعد سقوط النظام لأكثر من شهرين، إن في تجنب عمليات الانتقام الواسعة، أو في منع الفوضى في العاصمة والمدن، أو في ضبط الأمن والسلاح، وطغيان مناخ احتفالي وميل عمومي إلى التسامح النسبي، وسرعة القوى المنتصرة في صون ما تبقى من مؤسسات وإدارات، واعتماد مبدأ “تسوية” أوضاع المسلحين والعسكريين الموالين للنظام المخلوع، ومن ثم إشهار الحوار مع قوى مجتمعية (إثنية ودينية) لديها مخاوفها ومطالبها المشروعة.. كل هذا يبدو في طريقه إلى التآكل والتبدد.
في البداية، نجح المتعصبون والمتطرفون الموالون للنظام السابق، وهم من أصحاب السجل الأسود الخائفين من أي عدالة قد تطالهم، في تدبير كمين سياسي وعسكري في مناطق الساحل. جرّوا النظام الجديد إلى المذبحة المتبادلة، أي إلى مجازر طائفية يبدو أن هناك استعداداً كامناً عند الجهتين لارتكابها بسهولة وفظاعة تامتين. الحدث قطع على الأرجح في المستقبل المنظور أي احتمال لاحتضان متبادل بين السلطة الجديدة وغالبية الطائفة العلوية. ففي الشهرين الأولين، عقب هروب بشار الأسد، ظهر ميل عند سكان الساحل للتبرؤ من النظام السابق، وأبرزوا الكثير من الأدلة عن مشاركة نخبهم وجمهورهم في الثورة وفي معارضة الأسد. لكن المذبحة، أيقظت الغرائز الطائفية و”المخاوف التاريخية”، التي لطالما استثمر فيها آل الأسد. لقد كان ذلك كميناً محكماً ذهبت إليه سلطة أحمد الشرع، بسهولة.
هذا ما أتاح لمشايخ علويين المطالبة بتدخل خارجي، روسي، ولرامي مخلوف الدعوة إلى التسلح وإنشاء كيان انفصالي.
في ضواحي دمشق، وفي جرمانا كما في صحنايا والسويداء، تتكرر الصدامات الدموية مع المسلحين الدروز، الذين في الأساس كانوا أول من تحرر من سلطة الأسد وشاركوا في إسقاطه، وها هم اليوم مزودون بمخاوف مشروعة من ناحية، وبتشجيع ودعم إسرائيلي مفضوح من ناحية ثانية، يتمردون على سلطة أحمد الشرع التي أظهرت ميلاً متزايداً لحكم فئوي لا ينقصه التعصب الديني.
ودل ردّ الفعل على ما أعلنه الكرد أخيراً من مطالب أساسية ونظرتهم إلى نظام الحكم المأمول، أن سلطة دمشق تنحو إلى تشدد مركزي وهيمنة أقرب إلى تكرار خطايا حكم البعث.
الوقائع اليومية التي تدل على محاولات حثيثة ومرعية من السلطة الجديدة لفرض أيديولوجيا الإسلام السياسي على المجتمع وفي داخل الدولة، هي الوصفة الفعالة في إثارة اعتراضات لا حد لها، وتحرض فئات وشرائح كبيرة في المجتمع السوري لمواجهة السلطة الناشئة. بل إن ذلك، سيوقظ حتماً مسألة الأقليات على نحو يقود سوريا إلى حروب أهلية لن تقل فظاعة عن ما جرى خلال 14 عاماً المنصرمة.
إن تمردات مناطقية وإثنية وطائفية تغذيها أجندات خارجية، لا يمكنها أن تندلع وتستمر وتتوسع لولا أن السلطة الجديدة تمارس الإقصاء والتهميش والتمييز، كما أنها تُظهر يوماً بعد يوم وجهاً متعصباً، أجهض متطلبات الحوار الوطني والمشاركة الفعلية في المرحلة الانتقالية.
بعد نحو 500 ألف قتيل، ومليوني جريح و10 ملايين لاجئ ومهجّر، لا يبدو أن “المنتصرين” والمهزومين تعلّموا كفاية، ولا أصغوا إلى آلاف الصرخات والنداءات التي أطلقها أفضل السوريين.
المسار السياسي والأمني الذي تسلكه سلطة الشرع في الداخل السوري، والمموه بدبلوماسية خارجية ناجحة، قد يأخذ سوريا إلى تكرار مأسوي وجهنمي، لما حدث في العراق عقب سقوط الطاغية صدام حسين، أو إلى ما شهده لبنان في السبعينات والثمانينات من مجازر طائفية.. والأسوأ إلى تكرار الأسدية في سنواتها الـ14 المنصرمة. فإصرار السلطة الجديدة على عدم الإصغاء، هو أقصر الطرق لتتحقق نبؤات نتنياهو ورامي مخلوف في تفجير سوريا.