إنّ سوريا ما بعد الثامن من ديسمبر/ كانون الأول عام 2024م ليست كما قبلها؛ فبعد هروب بشار الأسد – رأس هرم – وسقوط حزب البعث العربي، كمنظومة وكأيديولوجيا كانت تقود سوريا منذ الثامن من آذار مارس عام 1963م بشكلها الفعلي، شعر السوريون بوضع جديد يقود المجتمع المدني في سوريا من دون الأسد وحزب البعث، وبالتالي كانت تركة الفوضى التي تركها خلفه من دمار للبنية التحتية والاقتصادية والاجتماعية ثقيلة جداً عليهم، وتتوضّح معالمها خلال الأشهر الستة الماضية بشكل جيّد، ولكن بالرغم من كمية الفوضى والدمار الحاصل والمُعاش حالياً يمكننا القول إنّ نصف المشكلة أو المعضلة السورية قد تم حلّها مع رحيل النظام السابق، والذي كان قد أوصل الحلول الممكنة إلى حدود المستحيل، وذلك بسبب تعنّته وتمسّكه بالمحور الإقليمي الذي اختاره، من خلال تخلّيه عن الحضن والمحور العربي السُّنّي لصالح المحور الإقليمي الشيعي المتمثّل بالجمهورية الإسلامية الإيرانية، إلى جانب المعسكر الشيوعي السابق المتمثّل بالاتحاد السوفياتي، والمعسكر الشرقي الاشتراكي المتمثّل بروسيا الاتحادية حالياً.
مع نهاية عام 2010م وانطلاق ربيع الشعوب في الشمال الأفريقي الذي اندلعت شرارته من تونس “البوعزيزي” وتمدّد إلى كل من جمهورية مصر وليبيا، ثمّ تحوّل أيضاً إلى الشرق الأوسط في كل من اليمن، وإلى سوريا التي بدأت التحرّكات الشعبية فيها بصدور عارية تماماً، ولم تكن مطالبها تتعدّى فسحة من الحرية السياسية وتحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية بشكل عام، ومن الأمور اللافتة منذ بداية الثورة السورية أنّ السوريين، بجميع طوائفهم ومذاهبهم وحتى قومياتهم، متّفقون – ولو بشكل غير مدروس أو منظّم – على أهمية الوحدة الوطنية فيما بينهم، وعلى خلق نوع من المواطنة المتساوية ما بين الأفراد الذين يعيشون على هذه الأرض، ولكن الردّ القمعي الأمني المتشدّد والمبالَغ فيه من الطرف الأمني المتحكّم أساساً في مفاصل الدولة السورية كان قاسياً جداً، وبدل أن يكون ذلك الردّ رادعاً للمطالبين فقد ولّد ردّة فعل عنيفة معاكسة؛ وبالتالي أدّت إلى عسكرة المطالب المدنية، وتحوّلت الساحة السورية بشكل عام إلى ساحة صراع مفتوح بين الأطراف الدينية المتشدّدة والقومية المتزمّتة والعقائدية والأيديولوجية …إلخ.
انتهاء دَور “بشار الأسد” كشخص و”البعث” كمجموعة:
بات من الواضح أنّ بقاء بشار الأسد في سدّة الحكم طوال الأربعة عشر عاماً من عمر الأزمة كان اتفاقاً دولياً وإقليمياً، ربّما ليس بالشكل والبروتوكول الرسمي ولكن بشكل مبطّن، وما التحرّكات التي قامت بها ما باتت تُعرَف بغرفة إدارة العمليات التي انطلقت من محافظة إدلب، وبقيادة المجموعات الإسلامية الراديكالية، وفي مقدّمتها هيئة تحرير الشام (ما كانت تُعرَف سابقاً بجبهة النصرة) إلّا تحريكاً خارجياً بعد تهيئة الظروف والشروط الإقليمية والدولية لتقبّل الوضع الجديد، الوضع الجديد ليس فقط على مستوى سوريا بل على مستوى الشرق الأوسط الذي لم يعد كما كان قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول عام 2023م، والعملية الخاطفة التي قامت بها حركة حماس الفلسطينية تجاه إسرائيل وما تبعتها من موجة عنف مضادّة تجاه المحور الإيراني والأذرع الإيرانية في المنطقة. أمّا السؤال الملحّ الذي يُطرح بقوة بالنسبة لسوريا فهو: لمَ الآن؟ ولمَ هذه السرعة في الإنجاز رغم أنّ الازمة السورية قد أُطيلت كل هذه الفترة السابقة؟ وللجواب عن هذه الأسئلة يمكننا الإجابة لا الحصر بما يلي:
مماطلة بشار الأسد في الإصلاحات التي وعد بها في الفترة الأخيرة جامعة الدول العربية.
وضع كامل مصالحه الشخصية والسورية في السلة الإيرانية على حساب العرب، وكنوع من التحدّي غير المباشر لهم.
تحدّي الغرب في مواجهة العقوبات الاقتصادية؛ وذلك من خلال انتشار معامل (الكبتاغون) على أراضيها، وإزعاج دول الجوار والخليج بتصريف إنتاجها في أسواق تلك الدول.
التعنّت في عملية التطبيع مع إسرائيل، وبالتالي ضرورة خلق البديل وفسح المجال بعد ذلك للدول العربية الأخرى بالتطبيع بأريحية عندما تسنح الفرصة المناسبة.
السيطرة على الأجواء السورية لمنع أي قوة قد تفاجئ إسرائيل أو تعيق أهدافها الاستراتيجية تجاه إيران.
ماذا بعد ستة أشهر من إسقاط الأسد:
ممّا لا شكّ فيه أنّ التركة الثقيلة لحكم حزب البعث وعائلة الأسد مجتمعَين، والتي امتدت لأكثر من ستة عقود، لا يمكن تعديلها أو تصحيحها أو تلافيها في غضون ستة أشهر فقط، وهو العمر الحقيقي لوصول ما تُعرف بإدارة العمليات إلى سدّة الحكم في سوريا، وهناك حقيقة لا يمكن تغطيتها بالغربال؛ وهي أنّ وصول أو إيصال هذه الجماعة لم يحدث صدفة ولم يكن مفاجأة، وكل خطوة مدروسة بعناية فائقة أيضاً؛ فرغم الخطوات المتسارعة والقفزات النوعية التي يقوم بها النظام الحام حالياً في دمشق كي يصبح مقبولاً إقليمياً ودولياً، ورغم تقديم الكثير من التسهيلات لذلك من قبل المحاور الداعمة، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، والتوسّط لدى القوى الغربية لخلق جوّ من الأريحية في العمل للحكام الجدد في دمشق، إلّا أنّه هنالك بعض النقاط والعوائق التي تحدّ من تسريع وتواتر عملهم، وعلى سبيل المثال لا الحصر أيضاً:
أسباب ذاتية تتعلق بعقلية الحكّام الجدد، الذين يفكّرون ويتصرّفون بنفس العقلية السابقة، حيث التسلّط على كل مفاصل الدولة.
الهيمنة البيروقراطية والسياسية والاجتماعية والتفكير بعقلية القوة والتسلّط.
عدم إمكانية ضبط جميع العناصر والفصائل التابعة لهم؛ وذلك لما تملكه تلك العناصر من خلفيات وعقائد أيدولوجيات متباينة.
الهيمنة السلفية والتفكير الجهادي المتجذّر في أساس الحركة القيادية التي تقود المشهد حالياً.
الهيمنة على جميع السلطات في مفاصل الدولة، التنفيذية والتشريعية، خاصةً بعد القرار الأخير للرئيس المؤقّت بتشكيل مجلس الشعب وتخصيص ثلثه لتعين مباشر منه، وعملية توزيع الثلثين الباقيين أيضاً لعملية انتخابات شكلية في ظل الظروف الراهنة غير المناسبة أصلاً لإقامة أي استحقاقات من هذا القبيل.
مشروع شمال وشرق سوريا نحو بناء نظام لا مركزي في سوريا
لم يعد خافياً على أحد أنّ مناطق شمال وشرق سوريا باتت الملاذ الآمن للكثير من القوى الديمقراطية التي تحمل أفكاراً ليبرالية في جميع أنحاء سوريا، وأنّ الانفتاح على المناطق الكردية والشعب الكردي أصبح ممارسة يومية للكثير من السياسيين والفنانين والتجار، سواء كان في جنوب كردستان أو غربه، وحتى في عموم المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية على وجه الخصوص؛ وربّما يعود ذلك إلى مدى الأمان الذي تنعم به تلك المناطق من جهة، ومن جهة أخرى يعود إلى الإيمان بالبرنامج أو الأفكار التي تحملها؛ من خلال لا مركزية الحكم والتشاركية فيه والتمثيل الحقيقي لجميع فئات الشعب لقيادة نفسه بنفسه، وتنظيم كل ذلك من خلال اللجان والكومينات الشعبية، وإيصال مطالب عامة الشعب عن طريق التسلسل الأفقي لا الهرمي للقيادات واللجان التنفيذية.
بعد الخطوة التاريخية التي اتّخذها الشعب الكردي في غرب كردستان في 26 نيسان/ أبريل من العام الحالي، بتوحيد الصف والموقف لجميع القوى السياسية الموجودة على الساحة السورية، وتوحيد المطالب والرؤية السياسية المشتركة في إيجاد حل عادل وعلى جميع الصعد، وتشكيل وفد مشترك للتحاور مع المركز في دمشق على هذا الأساس. وفي المقابل؛ بدأت الإدارة الذاتية الديمقراطية، ومن خلال لجانها المنتخبة فيما بينها وبتمثيل حقيقي لجميع القوميات والأديان، بالتحاور مع العاصمة، حتى أنّ بعض اللجان والفئات قامت بالمباشرة بعملها بالفعل؛ لكن السؤال الأهم الذي يُطرَح هو: هل الحكومة المؤقّتة الحالية في دمشق تحاور وتناقش المواضيع بجدّية الطرح في إمكانية تحويل سوريا من دولة مركزية إلى لامركزية وتعددية حقيقية بالفعل، أم أنّها تحاول كسب الوقت لنوايا أخرى.
في ظل الأوضاع الحالية اليوم ما لم يعد يختلف عليه اثنان هو أنّ زمن الدولة المركزية الخانقة قد انتهى بالفعل، لا على مستوى الشرق الأوسط فحسب، بل على مستوى العالم أجمع، وعليه؛ يجب على الجميع فهم ذلك والتأقلم معه أيضاً، وبالتالي؛ يجب على الإدارة الجديدة في دمشق أيضاً تقبّل كل الأفكار المطروحة عليها، سواء من الشمال أو الجنوب أو الغرب، وعليها أن تستفيد من أخطاء النظام السابق الذي تمسّك بالدولة المركزية وهمّش الآخر؛ وكانت النتيجة هي ما وصلنا إليه اليوم بعد تدمير كامل للبنية التحتية للبلاد، وعلى جميع الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية وغيرها.