فرّ بشار الأسد بعد اندثار بعثه، وسقوط مقومات نظامه وأركان جيشه الذي لم يقاتل. وهنا يجب التأكيد على سقوط النظام وليس الدولة التي ما زالت قائمة على الأرض. وإن كانت بعض التفاصيل حول خفايا ما جرى في المشهد السياسي السوري العام ما زالت مجهولة، خاصة إذا جمعنا ما جرى منذ السابع من أكتوبر من العام الماضي، نصل إلى حقيقة تمرير مخطط إضعاف نظام الأسد كإحدى تداعيات ما تلا ذلك اليوم المشؤوم.
سقوط نظام البعث (الأسد) الاستبدادي في دمشق، وما سبقه من أفول للدعم الإيراني والدعم الروسي، بسبب واقع كل منهما السياسي والعسكري، وبعيدا عن كل التخوفات السياسية المشروعة بحق قيادة جبهة النصرة أو هيئة تحرير الشام للعملية العسكرية برمتها، تحتاج سوريا إلى رؤية سياسية قائمة على استعادة الدولة الوطنية الجامعة لمكونات وطوائف المجتمع السوري تُنهي شبح تقسيمها إلى مناطق نفوذ دولية أو إقليمية أو حتى طائفية، خاصة مع تواجد عسكري؛ تركي وأميركي وروسي على أرضها.
ما مرت به سوريا خلال عقد ونيف، يتطلب استحضار تجربة وتاريخ الرئيس السوري الأسبق هاشم الأتاسي، الذي يلقب بـ”أبوالدستور” أو “أبوالجمهورية” كما يحلو للبعض تسميته، حيث يعتبر من السياسيين الذين لهم احترامهم وحضورهم، كان ولا يزال رجلا استثنائيا في تاريخ سوريا الحديث، ما قبل سقوط الدولة العثمانية، وولادة الدولة السورية المستقلة عنها، وحتى ما بعد الاحتلال الفرنسي لها واستقلالها. يجب إلقاء الضوء على تمسك الأتاسي بوجوب توافق بين المؤتمر السوري ووزارته آنذاك في معركة الدفاع عن الاستقلال وعدم التنازل عنه مهما كانت التحديات.
تولى الأتاسي رئاسة الجمهورية السورية ثلاث مرات، ووضع فيها دستورين، وتولى رئاسة وزراء الجمهورية أربعة أشهر، وتولى قبل كل ذلك رئاسة وزارة “المملكة السورية” ثمانين يوما؛ وهي الوزارة الوطنية الثانية التي أُطلق عليها اسم الحكومة الدفاعية لتخوض معركة الاستقلال، ورفض الانتداب أو أيّ اتفاق مع الكيان الإسرائيلي.
عرف عن الأتاسي خلافه مع الرئيس المصري جمال عبدالناصر، حيث كان يراه صغير السن لقيادة مصر، كما أنه عديم الخبرة فضلا عن أيديولوجية عبدالناصر الحادة، وكان أكثر من نبّه العرب مرارا لضرورة الحذر من أخطاء العسكر حتى قبل أن تراها الشعوب بفظاعتها وقسوتها.
هذا ما يضعنا أمام حقيقة تاريخية؛ بعد عهد الرئيس هاشم الأتاسي، بدأت انقلابات الضباط والعسكر التي دفعت بالبعث ليستلم مقاليد الحكم وصولا إلى حكم عائلة الأسد. والتاريخ يذكر للرجل أنه الوحيد الذي لم يجرؤ أيّ ضابط على التطاول عليه، وهو الوحيد الذي قاد المقاومة والمعارضة بشكل علني، وهو ما يربط اليوم بالأمس.
مجددا، تجربة الرئيس هاشم الأتاسي مستمدة من رؤية سياسية كانت تتطلبها حقبته بأبعادها الوطنية، لا يمكن اختصارها في مقال أو حتى كتاب. فالرجل حمى المشروع السياسي للدولة السورية في جميع منعطفاتها، من الاستقلال عن الدولة العثمانية مرورا بالاحتلال الفرنسي إلى التخلص منه، خاصة في جزئية نجاح الكتلة الوطنية بزعامة الأتاسي بإعادة وحدة البلاد في مارس 1936. وهو ما ينقلنا، حاليا، إلى الخطاب الأول الذي ألقاه رئيس الوزراء السوري محمد غازي الجلالي، وتأكيده على التواصل مع أحمد الشرع، أبومحمد الجولاني، لحماية مؤسسات الدولة والحفاظ عليها، ونقل ملفاتها بسلاسة. وهي نقطة انطلاقة لبناء المرحلة القادمة بضمانات سياسية يحتاجها الشعب السوري بين الفرقاء، بأن حوارا من أجل مستقبل الجمهورية وتوافقا قد يتحقق على دستور، ضمن عملية سياسية تجمع مكوناتها وطوائفها أسس المواطنة المتساوية تحت حكم مدني ديمقراطي حضاري.
الثقافة والوجدانية السياسية راسختان في تاريخ سوريا السياسي والإنساني، وهما صفتان تسهّلان على سوريا التعامل بمرونة مع المصالح المتقاطعة للاعبين دوليين ما زال نفوذهم على أرضها. وهو ما يتطلب رؤية سياسية تتضمن عقلية تقدم تنازلات داخلية لاستقرار سريع نحو تحولات ديمقراطية تنهي مخاوف من احتمالات أو سيناريوهات تصادم بين قوى مجهولة الهوية السياسية، ستختلف حتما في ما بينها على الأرض، انعكاسا واختلالا لنفوذ رعاتها الإقليميين والدوليين.
فوضى الصراع الداخلي المحتمل بين فصائل ما سمّي بالأمس معارضة سورية وضبابية المشهد القادم، تتطلبان عقلانية سياسية تدرك أن المرحلة القادمة تحتاج إلى معادلات سياسية تحافظ على الهيكل المؤسسي للدولة السورية، والانتقال بها إلى استقرار حقيقي يحتاجه الشعب لترتيب مرحلة انتقالية قائمة على أساسين: الدستور والانتخابات، خاصة أن المؤشرات الأولية تدل على نضج السوريين الظاهر بعدم إراقة دماء في الشوارع، وهو ما حرص أحمد الشرع على إظهاره في خطاباته وبياناته ومقابلاته التلفزيونية؛ كأسس عهده القادم. فالجميع يدرك أن السوري دفع فاتورة باهظة ليكون بلا نظام البعث الاستبدادي، لذلك تحتاج سوريا وشعبها لاستكمال الخطاب الإيجابي الواقعي المدعوم بخطوات ملموسة نحو بناء حكم مدني تعددي ديمقراطي يمثل الجميع.