أثناء كتابة هذه المقالة تواردت أنباء عن دخول الفصائل السورية المعارضة مدينة حماه، وكان المتابعون قد ذهلوا لتطورات الشأن السوري الأسبوع الماضي، فقد اجتاحت “هيئة تحرير الشام” ومعها فصائل أخرى أكبرها “الجيش السوري الوطني” التابع لتركيا، و”كتائب أحرار الشام”، محافظة حلب في عملية “ردع العدوان”، وسيطرت على ثاني أكبر المدن السورية التي سقطت بيد نظام بشار الأسد عام 2016، وكانت الجبهات تعيش حالاً من الهدوء الهش والحذر منذ ما عُرف بـ “اتفاق أستانا” الذي رعته روسيا وتركيا وإيران عام 2017.
الاجتياح السريع والانسحاب الأسرع لقوات النظام السوري والميليشيات الإيرانية المساندة له ذكّرت بعض المتابعين بما جرى في الموصل، ثاني أكبر المدن العراقية، عام 2014 حين اجتاحت “داعش” المدينة خلال ساعات وانسحب الجيش العراقي بسرعة هائلة وبأوامر مباشرة من رئيس الوزراء آنذاك نوري المالكي.
سيطرت “هيئة تحرير الشام” وتوابعها بقيادة غرفة “العمليات المشتركة” على مدينة حلب ومساحات واسعة من ريفها، وأحكمت قبضتها على محافظة إدلب بالكامل واتجهت جنوباً وغرباً نحو محافظة حماه وسط أنباء عن دخولها أحياء داخل المدينة، وقد استغل المعارضون ضعف النظام وجمود حاله وتلقيه الضربات الإسرائيلية المتواصلة على الميليشيات الإيرانية وتوابعها، وتدمير قوة “حزب الله” في لبنان الذي سحب معظم مقاتليه من سوريا إلى لبنان بعد اغتيال أمينه العام وقياداته المختلفة الرتب، وتردد الحليف الروسي الذي لم يكن مرتاحاً لتزايد النفوذ العسكري – الميليشياوي الإيراني في سوريا، وكان على تواصل مستمر مع أنقرة، كما أنه ينسق كل طلعة جوية يطلعها طيرانه مع إسرائيل.
ومن نافلة القول إنه بلا دعم استخباراتي وعسكري ومعلوماتي من تركيا، ولولا موافقة وضوء أخضر تركي لعملية “ردع العدوان” لما انطلقت الأسبوع الماضي، فـ “هيئة تحرير الشام” وتوابعها مثل “أحرار الشام” و”جيش العزة” و”حركة نورالدين الزنكي” تعيش على الدعم الذي يصلها من تركيا أو عبرها، ولا حدود أو منفذ لها مع أية دولة سوى تركيا، وقد طمأن المقاتلون أهالي حلب بطوائفهم كافة على أمنهم وحياتهم ودينهم، وأوصلوا الكهرباء على مدار الساعة بدلاً من الساعتين التي كان يوصلها النظام يومياً، وهم يقومون بتوزيع الخبز مجاناً وينشرون فيديوهات تظهر حسن معاملتهم النسبية لأسرى جيش النظام وميليشيات إيران، ويتضح التأثير التركي هذه المرة في سلوك مقاتلي الهيئة وظهورهم بمظهر مختلف عن الصور التقليدية عنهم، مثل قطع الرؤوس وهدم الكنائس وقتل الأسرى على أسس طائفية، وذلك لتسهيل إمكان تأهيلهم عبر أية مفاوضات أو تسويات مستقبلية، ويذكر أن “هيئة تحرير الشام” كانت جزءاً من “القاعدة” قبل أن تنفصل عنها وتصبح “جبهة النصرة” عام 2016، ثم أصبحت “هيئة تحرير الشام”.
وما كان لهذه الفصائل التي بينها ما صنع الحداد أن تشكل غرفة عمليات مشتركة لولا الضغط والتوجيه التركي الذي سيلعب بها ورقة خلال مفاوضاته مع النظام السوري الذي تعنت في مطالبه بانسحاب الأتراك من الأراضي السورية كافة قبل البدء في مفاوضات مع أردوغان، وللأتراك هدفان معلنان، تحجيم نفوذ الأكراد في “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) التي تسيطر على ربع مساحة سوريا في الشرق والشمال الشرقي، وتوسيع مساحات المعارضة لتهجير اللاجئين السوريين لديها البالغ عددهم نحو 3 ملايين لاجئ، أما الأهداف الإستراتيجية المتعلقة بضم حلب وإدلب لتركيا فهي غير معلنة رسمياً.
لقد تسبب النظام السوري بمقتل ما يقارب المليون من شعبه، وحول مدنه إلى خرائب، ونزح من بطشه نحو 8 ملايين إنسان، ولا يزال يمارس سياسة البطش والتنكيل نفسها بشعبه، مع إرهاقهم بالضرائب والقمع والقهر، فتحولت سوريا بفضل نظام بشار الأسد إلى خمس “سوريات” مقتطعة بينه وبين تركيا وإيران وتوابعها، وروسيا والولايات المتحدة الداعمة للأكراد والمنشغلة بالانتقال الرئاسي من جو بايدن إلى دونالد ترمب.
يسمي النظام السوري كل قوى المعارضة “إرهابيين”، ويسمي المعارضون جيش النظام وميليشيات إيران إرهابيين، وتسمي تركيا كل قوى الأكراد “إرهابيين”، وتعتبر روسيا وإيران والولايات المتحدة قوى المعارضة “إرهابيين”، كما تضيف إيران عليهم أحياناً اسم “تكفيريين”.
لقد أصبح النظام في سوريا عبئاً على حلفائه، وأصبح حليفه الإيراني عبئاً عليه، وظن بعض العرب أنهم استعجلوا بمحاولة إعادة النظام وتأهيله للنظام العربي غير الموجود أصلاً، وظن عرب آخرون أن مأزق النظام قد يدفعه للجوء إليهم والتخلي عن الراعي الإيراني، فتتقاطع الأجندات وتتلاقى المصالح وتفترق الأولويات على الساحة السورية اليوم، واللاعبون الأربعة الكبار على الأرض السورية هم تركيا وإيران وروسيا والولايات المتحدة، والتفاهمات بينهم تتجاوز الأسد ونظامه ولا يمكن التكهن بتطورات الأوضاع العسكرية على الأرض، لكن المؤكد أنها تسير نحو مزيد من التصعيد والدموية، وخصوصاً خلال الأسابيع المقبلة حين يحاول كل طرف أن يعزز موقفه التفاوضي بالنصر العسكري لهذا الطرف أو ذاك، لكن المراقبين الحريصين على الإنسان السوري ومستقبله لا يرون في كل التوقعات والسيناريوهات خيراً للشعب السوري المنكوب، في القريب العاجل.
نقلاً عن “إندبندنت عربية”