سوريا ومحاولات إعادة شبح التقسيم

رياض معسعس

يقول ماوتسي تونع: «إذا أردت أن تفهم شعبا ما فعد إلى تاريخه»، وإذا أردنا فهم الشعب السوري وما يجري من أحداث على الساحة السورية لا بد من العودة إلى التاريخ. فسوريا هذه الأرض التي نشأت فيها الحضارات الأولى التي تعود إلى الألف العاشر قبل الميلاد، وتوالت عليها كل الحضارات من سريان وكلدانيين وآشوريين وكنعانيين وسومريين وأنباط وبابليين، قدمت للبشرية كل فنون الزراعة، واخترعت الحرف (أبجدية رأس شمرا التي أسست لكل لغات العالم) وكانت مدنها من أقدم مدن التاريخ، وعاصمتها دمشق هي أقدم عاصمة في العالم، وفيها كان مهد الأديان التوحيدية، ومنها انطلقت إلى العالم أجمع، وهي التي واجهت روما (الملكة زنوبيا) وكادت أن تحكمها، ومنها برز قياصرة حكموا روما (فيليب العربي، وجوليا دومنا الحمصية، سبتيميوس جيتا، إيل جبال، جوليا ميزا،) ومنها كان يمر طريق الحرير إلى أوروبا.
ومع الفتح الإسلامي ظلت سوريا في عهد الأمويين أقوى دولة في العالم لمدة قرن كامل، ومنها انطلقت كل الفتوحات ففي العام 711 كانت الجيوش العربية الإسلامية على تخوم الصين وفي قلب فرنسا، وقام الأمويون بتأسيس أعظم وأجمل حضارة في الأندلس عبر التاريخ حيث كانت مثالا للعلم والفن والتطور والتعايش السلمي بين الطوائف. ولهذه الأسباب كانت سوريا ضحية موقعها الاستراتيجي، ولازدهارها، وحضاراتها، فتقاطرت عليها كل الامبراطوريات الغازية من فرس ورومان وإغريق وتتار، ومغول، وصليبيين وسواهم خاصة بعد انحدار الدولة العباسية. في العام 1516 كان عاما مفصليا في تاريخ سوريا التي دخلت تحت السيطرة العثمانية بعد معركة مرج دابق ضد المماليك ولم تجل عنها إلا بعد الحرب العالمية الأولى. (1914ـ1918).
كانت سوريا الكبرى في العهد العثماني تشمل كل الأراضي التي كان يضمها ما سمي بالهلال الخصيب أي تيماء والجوف إلى تبوك وبادية الشام الممتدة إلى الكويت والأحواز وجزء من سيناء، وشمالا كانت الحدود تصل إلى ديار بكر وحران وأورفة ومرعش وكلس وعنتاب وأضنة ومرسين، والشام أي سوريا الحالية ولبنان وفلسطين والأردن. وقبل سقوط السلطنة العثمانية أشارت المراسلات الفرنسية البريطانية قبيل عقد اتفاقية سايكس بيكو إلى تثبيت الحدود الإدارية لسوريا بأن تشمل: ولايات ومتصرفيات القدس وبيروت ولبنان ودمشق وحلب وفي الشمال الجزء الكامل من ولاية أضنة جنوب طوروس. وقد بدأ أول مشروع تقسيم في جسد سوريا بعد الحرب الأهلية الأولى في لبنان (بين الدروز والموارنة) في العام 1860 وقد طلب الموارنة الاستقلال الذاتي بدعم من الامبراطور لويس فيليب (نابليون الثالث) الذي ضغط على الباب العالي للموافقة على ما سمي «بمتصرفية جبل لبنان» تحت حكم متصرف أجنبي مسيحي عثماني. وهذه كانت الخطوة الأولى نحو سلخ لبنان عن سوريا بعد أن سيطرت فرنسا على سوريا ولبنان حسب اتفاقية سايكس ـ بيكو، ولما كانت فرنسا تعلم بأن بريطانيا تسعى لبناء دولة يهودية في فلسطين وسلخها عن سوريا (فكرة إنشاء دولة يهودية في فلسطين كانت فكرة فرنسية حاول تنفيذها نابليون بونابرت لكنه فشل على أسوار عكا) قامت هي ببناء دولة تقودها الطائفة المسيحية المارونية في لبنان. وقامت بريطانيا باحتلال فلسطين، وأنشأت دولة الأردن، وسيطرت على العراق. حسب مخرجات مؤتمر سان ريمو. وبعد السيطرة على سوريا قامت فرنسا بإعلان قيام 5 دويلات على أسس مناطقية، وإثنية، وطائفية، وهي حلب ودمشق وجبل الدروز، وجبل العلويين، ولبنان الكبير.
لكن السوريين رفضوا التقسيم وقاوموه بالثورة السورية الكبرى، وفي العام 1939 قامت فرنسا باقتطاع لواء اسكندرون من سوريا وضمه إلى تركيا كهدية لثنيها عن المشاركة في الحرب العالمية الثانية.

نالت سوريا استقلالها في العام 1946 ولأول مرة في التاريخ تتكون سوريا كدولة جمهورية مستقلة، وضمن دستورها مشاركة جميع أبنائها بجميع طوائفهم في كل مجالات الحياة ومثالا على ذلك لا الحصر:( 3 رؤساء جمهورية من الأكراد: حسني الزعيم، فوزي سلو، أديب الشيشكلي، وأمين عام الحزب الشيوعي خالد بكداش، وأشير إلى رئيس الوزراء المسيحي فارس الخوري الذي تبوأ منصب رئيس الوزراء، ورئيس مجلس الأمن وفي الوقت نفسه بتوافق مجلس النواب تولى منصب وزير الأوقاف الإسلامية، والمسيحي سعيد اسحق رئيس مجلس النواب، ومن الدروز مراكز كبيرة في إدارة البلاد، وفي الجيش السوري كفهد الشاعر، وسليم حاطوم، ومن العلويين محمد عمران، صلاح جديد، حافظ الأسد وسواهم) لكن منذ انقلاب البعث دخلت سوريا في نفق الدولة المخابراتية، وعبادة الشخصية، والاغتيال السياسي، والاعتقال التعسفي، وارتكاب المجازر المروعة، والأخطر الانقسام الطائفي الموجه من قبل السلطة الأسدية ضد الأكثرية السنية. والتوريث السياسي. وقد دام هذا الوضع في سوريا حوالي 60 سنة فككت عائلة الأسد خلالها نسيج المجتمع السوري، ودمرت اقتصادها، وبنيتها التحتية، ومئات الآلاف من المساكن المدنية، وقتلت أكثر من مليون شخص من المسلمين السنة باستخدام كل الأسلحة بما فيها الكيماوي، وهجرت أكثر من 12 مليونا منهم، وحولت سوريا إلى دولة مخدرات.
بدأ شبح التقسيم فعليا مع نظام الأسد باتخاذ سياسة الاعتماد على الطائفة العلوية في الحكم، وترهيب الطوائف الأخرى بخطر عودة الأكثرية السنية للحكم واستمالتها إلى جانبه، بل وضرب كل معارض لهذه السياسة حتى في صلب الطوائف الموالية التي منها ما كان معارضا.
وقد تجلت أولى ظواهر التقسيم بعد اندلاع الثورة السورية في العام 2011 بظهور تنظيم «داعش» الذي احتل الشمال الشرقي من سوريا، ثم ظهر قوات سوريا الديمقراطية «قسد» الكردية التي بدأت تواجه فصائل الجيش السوري الحر المعارضة بتواطؤ من النظام الأسدي والتي وجدت أمريكا فيها ذراعا يمكن الاعتماد عليه في محاربة «داعش»، فنجحت باحتلال حوالي ربع مساحة سوريا شرق الفرات الغنية بالنفط بعد طرد «داعش» منها، وأقامت استقلالا ذاتيا في هذه المناطق ما أثار مخاوف تركيا بإقامة دولة تركية على حدودها فقامت بدعم فصائل المعارضة من الجيش الوطني الحر لتحرير بعض المدن والقرى التي سيطرت عليها «قسد» في شمال سوريا وتمكنت من تحريرها والسيطرة عليها، ونجحت هيئة تحرير الشام (النصرة سابقا) مع فصائل أخرى منضوية تحت جناحها بتحرير محافظة إدلب من سيطرة النظام وإقامة إمارة غير معلنة استقلت أيضا ذاتيا وشكلت فيها حكومة مؤقتة معارضة. واستطاعت أمريكا السيطرة على منطقة التنف جنوب سوريا التي يتواجد فيها قوات معارضة من الجيش الحر. وهكذا تم تقسيم سوريا تحت سلطات مختلفة قبل أن تفاجئ هيئة تحرير الشام بدعم تركي بهجوم مباغت حررت فيه مدينة حلب ثم باقي المدن السورية وصولا إلى دمشق في وفرار بشار الأسد.
ولكن هذا لم يكن يعني أن السلطة الجديدة في سوريا التي وضعت دستورا جديدا مؤقتا يضمن الحرية والمساواة بين جميع السوريين قد سيطرت على الوضع تماما رغم توقيعها اتفاقا مع «قسد» (الذي لم يدم طويلا بعد المؤتمر الوطني الكردي الذي عقد في 26 نيسان/ أبريل الماضي وطالب بدولة لا مركزية) وقامت فلول النظام التابعة للطائفة العلوية بمهاجمة قوات الأمن من الإدارة الجديدة وطالبت بحماية دولية بل و«دولة علوية في الساحل السوري» وأعلن رامي مخلوف ابن خال بشار الأسد بتشكيل قوات نخبة لحماية الساحل، وفي محيط دمشق (جرمانا وصحنايا) وجبل العرب قامت وحدات مسلحة مشابهة بالاشتباك مع قوات الأمن في محاولة لعزل هذه المناطق والمطالبة باستقلال ذاتي أيضا مدعومين جهارا نهارا من إسرائيل التي شاركت في الاشتباكات، وأعلنت دعمها لدروز سوريا، وحتى أن البعض رفع علم إسرائيل، وقامت شخصيات دينية بزيارة إسرائيل بدعوة من شيخ عقل الدروز موفق طريف، لكن كما كانت هناك انقسامات لدى العلويين والأكراد ظهرت الانقسامات بشكل أوضح لدى الطائفة الدرزية.
هكذا تبدو سوريا مع كل هذه المحاولات التي تسعى لفرض واقع تقسيمي أو إنشاء كيانات منفصلة بمسميات الفيدرالية، أو الإدارة الذاتية بدعم إسرائيل التي صرحت بوقاحة وبلغة استعمارية إمبريالية أنها تسعى لتفكيكها أنها في خطر حقيقي يتربص بها لتحويلها لكيانات متناحرة تقضي عليها، وتكون بداية لتفكيك الشرق الأوسط و«إعادة صياغته» كما يصرح رئيس وزراء دولة الاحتلال بصلافة في كل مناسبة وغير مناسبة.

كاتب سوري

عن القدس العربي