شحاطة أم أحمد المرفوعة في وجه الدولة

عمر قدور

قبل خمسة أيام انتشر بسرعة تسجيل لامرأة يبدو أنها كانت في مشاجرة مع آخرين في سوق شعبي، بعد ذلك تدخلت امرأة ثانية لتتكفّل بالرد على الأولى، ثم تصفعها، وترفع صندلها في وجهها مهدِّدةً. الواقعة حدثت في سوق الدحاديل في دمشق، وعُرفت المرأة صاحبة “الشحّاطة” بأنها أم أحمد، وبسرعة شديدة حقاً تمّ باعتزاز تداول صورتها مع الشحاطة المرفوعة. وسرعان ما استُخدمت برامج الذكاء الاصطناعي لتحوير الصورة بحيث تموَّه الملامح وتصير أكثر عمومية، وصولاً إلى تركيب رأسها على تمثال الحرية الشهير، وهي ترفع الشحاطة بدل شعلة الحرية في التمثال الأصلي.

 

المرأة التي نالت الصفعة غير محجَّبة، بخلاف أم أحمد التي تضع غطاء رأس كان أكثر رواجاً قبل شيوع الحجاب الحالي. قيل عن الأولى إنها علَوية وشبيحة للأسد، ثم قيل إنها محامية مسيحية. الأهم، في هذا السياق، ما قالته أم أحمد نفسها في لقاء إثر الحادثة، وفيه وضّحت أنها كانت مارّة بالسوق، ورأت تلك المرأة الغاضبة على رجال لا يردّون على كلامها الغاضب لكونها امرأة، فبادرت هي إلى الردّ لإسكاتها ومعاقبتها، وكانت مستعدة أيضاً لـ”تسليخها-تعريتها” لو لم تكن “حُرْمة-امرأة”.

بالتزامن تقريباً شاع خبر الاعتداء الذي تعرّض له قاضٍ في حلب أثناء مناوبته، من قبل رئيس قسم شرطة وعناصره، وقد كان الخبر مؤكّداً بدلالة القبض على رئيس القسم. إلا أن احتجاز المذكور كان لساعات أقل من احتجازه القاضي، إذ خرج متظاهرون يطالبون بالإفراج عنه تحت يافطة انتمائه للثورة، بينما راحوا يتهمون القاضي بأنه من شبيحة الأسد. في النهاية، ظهر رئيس القسم في تسجيل ليتحدث عن المصالحة التي أفضت إلى إطلاق سراحه، وفيه يقول إن القاضي سأله: كم ضربتني؟ فأجاب بأنه لا يذكر. ثم سأله القاضي عمّا يكون له في الشرع؟ فأجابه بأنه يستحق القصاص أو التعويض. وهنا عفا عنه القاضي. وأنهى رئيس القسم كلامه بالاعتذار من المؤسسة القضائية!

حادثة تعرُّض القاضي للاعتداء اقتضت تدخلاً وتواصلاً بين وزيري الداخلية والعدل، ما أدى إلى توقيف رئيس القسم قبل إطلاق سراحه. لا ندري ما إذا كان الصلح برعاية حكومية أيضاً، لكن لا نحتاج خبرة قانونية واسعة للجزم بأن رئيس القسم وعناصره ارتكبوا ثلاث “مخالفات” للقانون؛ أولها الاعتداء على القاضي أثناء تأدية عمله، وثانيها احتجازه من دون مذكرة توقيف أصولية، والثالثة تعريضه للتعذيب والعنف أثناء الاحتجاز. بالطبع يستطيع القاضي أن يُسقط حقه الشخصي، أما الحق العام فهو لا يسقط إلا بعفو بعد المحاكمة وصدور الحكم. وفي كل الأحوال، لم يُعلن (على الأقل) عن أية عقوبة مسلكية تشير إلى اكتراث السلطة بالحق العام الذي هو مُلْك للدولة.

لدينا في الحادثتين سلوك خارج القانون، مورِس على الملأ، وخرج صاحبا السلوك بتسجيل يتضمن الاعتراف بما حدث، ولم تتحرك الجهات المعنية رسمياً بإنفاذ القانون. وما يلفت الانتباه هم الموالون الذين صنعوا من أم أحمد أيقونة، سواء على صعيد الصورة، أو على صعيد تداول وسوم من قبيل “أم أحمد لردع النسوان”، على غرار عملية “ردع العدوان” المعروفة. هؤلاء هم أنفسهم الذين أيّدوا سلوك رئيس قسم الشرطة، وطالبوا بالإفراج عنه، وتجاهلوا كلياً أنه داس على القانون بالعديد من الانتهاكات التي صارت مثبتة.

هؤلاء يعرّفون عن أنفسهم بأنهم أنصار الدولة، ويخلطون عن جهل (أو تجاهل) بين السلطة والدولة. والثانية منهما، بنسختها المعاصرة، هي تعريفاً دولة القانون، إذ لا يمكن تخيُّل دولة حديثة ما لم تكن محكومة بسلسلة من القوانين الناظمة لمختلف العلاقات؛ الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. والشائع في الثقافة السياسية منذ عقود هجاءُ أنظمة وكيانات ما دون الدولة الحديثة لأنها بلدان لا يحكمها القانون، ولأنها بلدان الإفلات من العقاب، ولطالما تعرّضت سلطة الأسد للهجاء على الأرضية ذاتها، من حيث التسلّط والدعس على القوانين، ثم الإفلات من العقاب.

لقد قيل في عام 2011: لو قدّم الأسد ابن خالته عاطف نجيب إلى المحاكمة، لاتخذت الأحداث مساراً مغايراً تماماً. هذا مثال بليغ على أهمية القانون، يعرفه الذين شاركوا في الثورة وقيَمها، وجدير بأن يعرفه أولئك الذين استعداهم الأسد بالعنف والوحشية. ومما ينبغي تذكّره أن هناك قوى (باسم الثورة) ألغت تطبيق القوانين السورية، في جزء من المناطق المحررة آنذاك، واعتمدت المدوّنة القضائية التي وضعتها جامعة الدول العربية، أما هيئة تحرير الشام فكان لها في إدلب مدونتها الخاصة، وكذلك حال مناطق الإدارة الذاتية.

لم يصدر عن الحكومة الحالية في دمشق ما يشير إلى اعتماد قوانين جديدة، وهذا يعني تلقائياً العمل بموجب قوانين الدولة السورية، بعدما أُلغيت المحاكم والإجراءات الاستثنائية التي تقيّد الحريات السياسية على نحو خاص. ويجب أن يعني هذا على نحو خاص، ومؤكد، الانتقال إلى منطق الدولة، بما أن السلطة حريصة على التأكيد على حيازتها الدولة، ويُفترض أن تفي بما على الدولة من التزامات، في مقدمها تطبيق القانون نصاً وروحاً، لأهميته في استتباب الأمن.

لقد رأينا في مثالَيْ أم أحمد ورئيس قسم الشرطة تغييباً للقانون، مع استحضار للأعراف والدين، ووضْعُ السياسة في الواجهة لا ينجح في التغطية على التهرب من القانون. المجتمعات السورية، كمعظم بلدان العالم، تحكمها منظومة من ثلاث ركائز، العُرْف والدين والقانون. الأول منهم “العرف” يتعزز في المجتمعات المستقرة، وهكذا نرى الاختلافات بين الريف والمدينة مثلاً، ولأسباب اقتصادية أيضاً ضمن المكان الواحد. في حالات الهزات الكبرى، على صعيد المجتمع أو الدولة، يتقدّم الدين ليكون حكَماً في الشؤون الحياتية أكثر من الأوقات الاعتيادية، وهو إما أن يتقدّم على حساب الأعراف أو على حساب القوانين، أو على حساب الاثنين كما حدث في سوريا منذ عام 2011.

القول بعودة الدولة إلى ممارسة وظائفها يستتبع تطبيق القانون، وعودته ليكون حكَماً بين جميع المواطنين، ومن هنا يجب أن يكون القانون محايداً وعمومياً، بينما تختص الأديان والأعراف بمجتمعات محدودة، صغرت أم كبرت. أيضاً، عودة السوريين المهجَّرين يُفترض بها أن تعيد، ولو تدريجياً، الاستقرار المجتمعي، بحيث تعاود المجتمعات العمل بأعرافها، والتي هي بطبيعة الحال مرنة بمرور الوقت كي تتلاءم مع ما يستجد من ظروف.

في حالةٍ كالانقسام السوري، ليس هناك في الأفق ما يعيد توحيد السوريين المختلفين والمتخالفين سوى قوانين المواطنة الجامعة، وبحيث تكون القوانين بمضمون أكثر رحابة وحرية من قبل. الخيار الآخر هو الهيمنة بالقوة، وهو ما جُرِّب خلال العقود الماضية. وإذا جاز التعبير، ربما يجب الاعتياد على (الإخلاص) لفكرة القانون، وعدم التعاطي معه بعقلية الاحتيال أو التذاكي، داخلياً أو خارجياً. لقد رأينا شيئاً مشابهاً عندما ظن موالون أن الاتحاد الأوروبي حمّل الفلول مسؤولية مجازر الساحل، قبل ساعات من صدور العقوبات على أشخاص وكيانات تتبع وزارة الدفاع. فقد احتفى الموالون بما ظنّوه تبرئة، من دون التوقف عند أهمية إحقاق العدالة بصرف النظر عمّا يريده الخارج، ومن دون انتباه أو اكتراث بأن لجنة التحقيق المحلية لم تصدر تقريرها بعد!

كان يمكن اعتبار شحاطة أم أحمد مرفوعةً ضد الظلم، والتغنّي بها لو ثبت أن الغريمة شبيحة ووقعت الحادثة أيام الأسد، عندما كان الشبيحة فوق القانون. أما الآن، من موقعها، فهي ترفع شحاطتها من موقع القوة والسلطة، ضد الدولة المنشودة.