بن معمر الحاج عيسى
في قلب الظلمة الممتدة منذ عقود، ينبعث صوت لا يُقهر من خلف القضبان، صوت الأسرى الفلسطينيين الذين يخوضون مواجهة يومية مع أبشع أشكال البطش والإذلال، لا لذنب اقترفوه سوى أنهم طالبوا بالحرية. يقف الفلسطيني الأسير في سجون الاحتلال الصهيوني عارياً من حقوقه، محروماً من أدنى مقومات الحياة، مطعوناً بآلة قمع لا ترحم، وسط صمت دولي مخزٍ، يتواطأ بالصمت أو العجز. إن ما يحدث في تلك الزنازين ليس مجرد اعتقال، بل هو مشروع ممنهج لاغتيال الكرامة وتفريغ الشعب الفلسطيني من رموزه، وأسره من كل ما يشكل له نبض الحياة.
في عددها الصادر يوم الأربعاء 4 جوان 2025، خصّصت جريدة الأيام نيوز الجزائرية، من خلال مشروعها الصحفي المتواصل “صوت الأسير”، ملفاً استثنائياً حول واقع الأسرى الفلسطينيين، لتكون كما كانت دائماً، منبراً داعماً للحق الفلسطيني، وناقلاً لصوت المقهورين خلف القضبان. هذا الملف، الذي أعده الإعلامي الفلسطيني والأسير المحرر خالد عز الدين بالتعاون مع هيئة شؤون الأسرى والمحررين ونادي الأسير الفلسطيني، شكّل وثيقة صحفية إنسانية وحقوقية بالغة الأهمية، شارك في صياغة صرخاته أقلام نبيلة لا تخشى الحقيقة، من بينها: سعيد بن عياد وبن معمر الحاج عيسى وأمجد النجار، حسن عبادي، د. جمال ابو نحل ، على شكشك ،أحمد لطفى شاهين ، وسام زغبر ، اسلام عبدو وغيرهم من المؤسسات الحقوقية والانسانية والمهتمة بملف الاسرى
تعددت في هذا الملف الشهادات والتقارير والصرخات، فجاءت من بطون الزنازين لتكشف للعالم صورة لا تحتمل التأويل: تعذيب ممنهج، اعتقال إداري دون محاكمة، تفشي أمراض خطيرة كـ”السكابيوس” وسط انعدام الرعاية الطبية، تجويع متعمد، حرمان من الأدوية وحتى من أبسط الحاجات كمعجون الأسنان أو نصف حبة “أكامول”. قصص لأطفال في سجون مجيدو، كالشبل ماهر حجا الذي كُسرت أضلاعه تحت الضرب، أو أوس طه الذي فقد أكثر من 30 كيلوغرامًا من وزنه بسبب سياسة التجويع، لتؤكد أن هذه الزنازين ليست سوى امتداد لحرب إبادة مستمرة.
وفي غزة، ما بعد 600 يوم من المجازر، لا يزال المعتقلون يعانون في معسكرات “سديه تيمان” و”عوفر” من انتهاكات لا تليق بالبشر: منع الاستحمام، تجريد من الملابس، نوم تحت البرد، ضرب مبرح، وإجبار على الانكسار. حتى الطبيب الصهيوني لم يعد طبيبًا، بل محققًا برداء أبيض ومشرط ملوث، يعالج الجراح بالتجاهل، أو بالموت البطيء، كما ورد في شهادة المعتقل أنس شحادة، الذي خضع لعملية دون تخدير، ليُشتم وهو يتألم.
تتجلى المأساة في قصة سناء سلامة، زوجة الشهيد وليد دقة، التي اعتُقلت لأنها طالبت بجثمان زوجها لدفنه بما يليق بكرامته، لتُضاف إلى سلسلة القهر النسائي الذي تمارسه سلطات الاحتلال ضد الفلسطينيات، سواء كن أسيرات، أمهات، زوجات، أو حتى طفلات لا يعرفن غير البكاء داخل الزنازين.
ولعل مأساة النساء في سجن “الدامون”، والتي رصدتها أقلام الجريدة بدقة وألم، كانت من أوجع ما حمله الملف: تفتيش عارٍ، مصادرة الملابس، نوم بثياب الصلاة، غياب التدفئة والدواء، نساء حوامل ومريضات بالسرطان بلا علاج، وأسيرات لا يعرفن شيئاً عن عائلاتهن منذ اعتقالهن.
من غزة إلى الضفة، ومن سجون الاحتلال إلى ردهات المحاكم العسكرية، يثبت الأسرى الفلسطينيون أن إرادتهم عصية على الانكسار، وأن حريتهم وإن سُلبت، فكرامتهم تبقى عصية على الأسر. في كل سطر كتبه هؤلاء الصحفيون في جريدة الأيام نيوز، لم تكن الكلمات مجرد حبر، بل كانت دموعًا وغضبًا وشهادة حية على ما يجري في الزنازين المعتمة.
إن هذا الملف ليس تقريرًا عابرًا، بل وثيقة إنسانية يجب أن تُرفع في وجه العالم، ليعلم أن هناك من يُقتَل ببطء خلف القضبان، وهناك من يقاوم باسمنا جميعًا. شكراً للأيام نيوز، وشكراً لكل من حمل قلمه ليفضح هذا الظلم، ويبقى صوت الأسرى – كما أرادوه – صرخة لا تنكسر في وجه الجلاد، وصفعة في وجه الصمت.