لم تكن تصريحات موسى أبو مرزوق وأسامة حمدان مجرد كلمات عابرة، بل أشبه بصفارات إنذار تكشف عن جوهر الأزمة التي تخوضها حركة حماس، وتفضح في الوقت ذاته طبيعة اللعبة المعقدة التي تُدار على أرض غزة وفي كواليس العواصم. حين يخرج قياديان من الصف الأول في الحركة ليؤكدا أن السلاح خط أحمر لا يمكن نزعه، وأن المشاركة السياسية حق مكتسب لا يمكن التنازل عنه، وفي المقابل يلوّحان بالموافقة على تسليم الأسرى والجثث دفعة واحدة في إطار صفقة، فإن الرسالة تصبح أبعد من مجرد مواقف تكتيكية، إنها ملامح معادلة جديدة تحاول حماس رسمها: البقاء مقابل الصفقة، الشرعية مقابل الرهائن، والسلطة مقابل الإعمار. هذه ليست مواقف تعبر عن انتصار، بل هي إشارات مأزق وجودي، مأزق تنظيم وجد نفسه محاصراً بين أنقاض مدينة محطمة، ووسط شعب أنهكته المجازر، وأمام واقع إقليمي ودولي يبحث عن إعادة صياغة غزة وفق معايير جديدة.
المعادلة السياسية تبدو صارخة: هناك حرب دمرت كل شيء، ومعها دُفنت صورة “المقاومة المنتصرة” التي حاولت الحركة تسويقها طويلاً. السلاح الذي كان يُقدَّم كأداة لتحرير فلسطين بات في نظر كثيرين أداة لإدارة الداخل والسيطرة على الخصوم، فإسرائيل لم تُهزم ولم تُجبر على الانسحاب، بل العكس، فرضت واقعاً جديداً.
في الوقت نفسه، لا تستطيع حماس التنازل عن السلاح لأنه رأسمالها الوحيد، فالشرعية الشعبية ذابت تحت الركام، والقدرة المالية انهارت مع الحصار، والامتداد الإقليمي بات مشروطاً ومحدوداً. ولذلك يصبح التمسك بالسلاح خيار بقاء وليس خيار مقاومة.
لكن الإشكالية لا تقف عند حدود السلاح، بل تتجاوزها إلى السؤال عن شكل الحكم المقبل في غزة. فالحركة ترفض الانسحاب من المشهد السياسي، وتصر على المشاركة في الحكومة القادمة، سواء عبر حكومة وحدة أو صيغة شراكة مدعومة إقليمياً.
هذا الإصرار يعكس إدراكاً عميقاً بأن الخروج يعني المحاسبة، والمحاسبة هنا ليست سياسية فقط بل جنائية وأخلاقية. آلاف القتلى، دمار شبه شامل للبنية التحتية، كارثة إنسانية غير مسبوقة، كل ذلك سيُحمّل على من كان في موقع القيادة. لذلك يصبح البقاء في السلطة نوعاً من الحصانة الذاتية، درعاً يحمي من المقصلة، ويمنح فرصة لإعادة تدوير الشرعية عبر المشاركة في إعادة الإعمار، وهي الورقة الاقتصادية الأخطر على الإطلاق.
الاقتصاد في غزة ليس مجرد أرقام، بل هو معركة بحد ذاته. الكارثة الإنسانية خلقت حاجة ملحة لمليارات الدولارات لإعادة الإعمار، وهذا المال لن يأتي إلا عبر قنوات دولية وإقليمية، ما يعني أن من يسيطر على بوابة الإعمار يسيطر على غزة سياسياً واجتماعياً لسنوات مقبلة. هنا بالضبط تريد حماس أن تكون: شريكاً أساسياً في ملف إعادة الإعمار، لا لكي تُبنى غزة فحسب، بل لكي تُبنى شرعيتها من جديد فوق ركام البيوت.
المشكلة أن هذا التموضع يصطدم بموقف إسرائيلي وأمريكي واضح: لا إعمار بلا ضمانات أمنية، ولا دور لحماس بلا صفقة. من هنا يظهر البعد الاقتصادي للمقايضة: تسليم الرهائن والجثث مقابل تدفق الأموال وضمان بقاء الحركة في المشهد.
لكن هل تقبل إسرائيل بذلك؟ من منظور عسكري وأمني، إسرائيل لا تريد لحماس أن تبقى قوة مسلحة مهيمنة، وفي الوقت ذاته تدرك أن القضاء الكامل على الحركة شبه مستحيل من دون حرب استنزاف طويلة أو إعادة احتلال مباشر للقطاع، وهو سيناريو مكلف.
لذلك يبدو أن إسرائيل تلوّح بمعادلة مضادة: نعم للصفقة، لكن مع قيود صارمة على السلاح. غير أن تصريحات أبو مرزوق وحمدان أوضحت أن الحركة لن تقبل نزع سلاحها، ما يعني أننا أمام صدام مرتقب بين سقف المطالب الإسرائيلية وحدود تنازلات الحركة. هنا يتحول ملف الرهائن إلى ورقة ضغط متبادلة: حماس تعرض تسليمهم دفعة واحدة مقابل ضمان بقائها السياسي والعسكري، بينما إسرائيل تريد استردادهم مع تفكيك القوة العسكرية للحركة.
في البعد الإقليمي، تتحرك عواصم عربية بين خيارين: بعض الدول ترى أن بقاء حماس في الحكم عقبة أمام استقرار غزة وإعادة إعمارها، بينما دول أخرى تعتبر أن استبعاد الحركة كلياً سيخلق فراغاً يفتح الباب أمام الفوضى أو عودة سيناريوهات أشد خطورة.
أما إيران وحلفاؤها فيرون في السلاح خط الدفاع الأخير لبقاء نفوذهم في الساحة الفلسطينية، لذلك يضغطون باتجاه تثبيت معادلة “سلاح مقابل بقاء”، معتبرين أن أي تسوية بدون حماس تعني خسارة موقع استراتيجي متقدم في مواجهة إسرائيل. هذه التناقضات تجعل غزة اليوم ليست مجرد ملف محلي بل عقدة إقليمية، حيث تتقاطع مصالح واشنطن وتل أبيب والدوحة وطهران والقاهرة وأنقرة، وكل طرف يحاول فرض رؤيته على شكل الغد في القطاع.
أما البعد العسكري، فهو الأكثر خطورة. السلاح بالنسبة لحماس ليس فقط وسيلة مقاومة بل أداة سلطة، وهو ما يفسر تمسكها به بشراسة. هذا السلاح الذي لم ينجح في منع الدمار الهائل ولم يغيّر موازين القوى مع إسرائيل، صار يُستخدم كورقة سياسية لإرهاب الخصوم الداخليين وضبط المجتمع. الخشية الكبرى أن يتحول هذا السلاح إلى خط تماس دائم مع أي قوة محلية أو دولية تحاول فرض تسوية لا ترضاها الحركة. بمعنى آخر، الخطر الأكبر أن يصبح سلاح حماس عامل تفجير داخلي لا أداة مقاومة خارجية.
في الجانب الاقتصادي، الوضع لا يقل تعقيداً. غزة اليوم أشبه بركام مفتوح على المجهول: بنية تحتية محطمة، بطالة تقارب الشمول، اقتصاد ظلّ كان مرتبطاً بالأنفاق والتحويلات الخارجية، اختفى تحت القصف. أي خطة إعمار تحتاج إلى إدارة شفافة ومؤسسات قوية، لكن كيف يمكن أن تُدار المليارات في ظل وجود حركة متهمة بالفساد والتهريب والسيطرة الأمنية؟ هنا يبرز البعد الأخطر: أن تتحول أموال الإعمار إلى وسيلة لتكريس نفوذ الحركة وإعادة بناء سلطتها لا إعادة بناء حياة الناس.
سياسياً، المشهد الفلسطيني الداخلي على حافة انفجار. السلطة الفلسطينية ترى في نفسها البديل الشرعي لإدارة غزة، لكنها تعاني من أزمة شرعية مزمنة، وانقسامات داخلية، ورفض شعبي واسع. حماس بدورها تريد أن تبقى جزءاً من اللعبة، لا أن تُستبعد، ما يعني أننا أمام صراع شرعية مزدوج: سلطة عاجزة وحركة مأزومة، وبينهما شعب تائه تحت الركام. إسرائيل تدفع باتجاه صيغة إدارة متعددة الأطراف تُقصي حماس جزئياً وتُقزّم السلطة، بينما أمريكا تبحث عن شريك عربي يضمن التمويل والاستقرار. هذا التداخل السياسي يخلق معادلة صعبة: أي حكومة مقبلة في غزة ستكون حكومة توازنات مفروضة لا حكومة خيار شعبي.
العسكري والسياسي والاقتصادي هنا يتشابك بطريقة تجعل من تصريحات أبو مرزوق وحمدان أشبه بخريطة طريق مقلوبة: لا تنازل عن السلاح لأنه أساس السلطة، لا انسحاب من المشهد السياسي لأنه صمام الأمان ضد المحاسبة، نعم للصفقة لأنها الجسر الوحيد نحو الإعمار والبقاء. لكن هذه الخريطة تصطدم بواقع إقليمي ودولي لا يقبل بقاء حماس على حالها، وتصطدم أيضاً بشعب فقد الثقة في كل القيادات، يبحث عن أمل جديد خارج معادلات الدم والدمار.
التحليل الاستراتيجي يقود إلى سؤال جوهري: هل نحن أمام بداية تسوية تُعيد صياغة غزة أم أمام مقدمة لانفجار أكبر؟ إذا قبلت إسرائيل الصفقة على مضض، فقد تُبقي حماس في المشهد لكنها مُكبّلة، ما يفتح الباب أمام إعادة تدويرها كقوة سياسية محدودة النفوذ. وإذا رفضت إسرائيل الصفقة وواصلت الحرب، فقد تدفع الحركة إلى التشبث أكثر بالسلاح وتحويل غزة إلى ساحة صراع دائم. وفي كلا الحالتين، غزة ستظل رهينة لمعادلات لا يتحكم فيها أهلها، بل تُدار من الخارج والداخل معاً.
اقتصادياً، أي إعادة إعمار من دون إصلاح سياسي ستفشل، لأن المال وحده لا يبني المؤسسات ولا يمنع الفساد. وعسكرياً، أي بقاء للسلاح خارج إطار الدولة سيعني استمرار الحلقة المفرغة: حرب – دمار – إعمار – ثم حرب جديدة. وسياسياً، أي مشاركة لحماس دون محاسبة ستكرس ثقافة الإفلات من العقاب، وتجعل من الدم ورقة مساومة دائمة.
في النهاية، ما تكشفه تصريحات أبو مرزوق وحمدان ليس فقط مواقف آنية، بل استراتيجية مأزومة تحاول الحركة من خلالها إنقاذ رأسها في لحظة تاريخية فارقة. إنهم يفاوضون على بقائهم، لا على مستقبل غزة. يطرحون السلاح كورقة حياة، لا كوسيلة مقاومة. يقايضون الرهائن بالسلطة، لا بالحرية. يريدون أن يدخلوا في حكومة الإعمار لا لبناء البيوت بل لبناء حصانتهم. إنها مقايضة على الدم، لا صفقة سياسية حقيقية. والسؤال الذي يفرض نفسه: هل يقبل الشعب الفلسطيني والعالم بهذه المقايضة؟ أم أن غزة ستجد طريقها نحو ولادة جديدة، ولادة لا مكان فيها لمن حرقها باسم المقاومة؟