طريق الحرير والنار: التحالف الصيني الإيراني بين شهوة الهيمنة الأمريكية وحروب الوكالة الإسرائيلية

بن معمر الحاج عيسى

في عمق صراعات القرن الواحد والعشرين، لم تعد الحروب تُخاض بالسيوف ولا حتى بالصواريخ فقط، بل بالموانئ والممرات وخطوط الشحن والربط اللوجستي. هذا هو عالم الجغرافيا السياسية الجديد، حيث لم تعد الجيوش وحدها من تقرر مصير الأمم، بل كذلك القوافل الاقتصادية العابرة للقارات. وفي قلب هذا العالم المتحوّل، يقف التحالف الإيراني الصيني كواحد من أخطر الكوابيس التي تؤرق الغرب، وتحديدًا الولايات المتحدة وإسرائيل، في صراع لا يهدف فقط لردع طهران، بل لكسر الحزام الآسيوي الصاعد الذي تتزعمه بكين، وتلتحق به قوى إقليمية مثل إيران وباكستان وسواها.

منذ أن وقعت طهران وبكين الاتفاقية الاستراتيجية الشاملة لمدة 25 سنة، والتي تتجاوز قيمتها 400 مليار دولار، بدا واضحًا أن المشروع الصيني المعروف بـ”مبادرة الحزام والطريق” (أو طريق الحرير الجديد) لم يعد طموحًا تجاريًا فقط، بل تحول إلى منظومة متكاملة لضرب الهيمنة الغربية، وإعادة تشكيل النظام العالمي. إيران، التي تقع جغرافيًا على تقاطع حاسم بين الشرق والغرب، تُعد واحدة من أهم محطات هذا الطريق، سواء عبر الموانئ الجنوبية مثل “بندر عباس” و”تشابهار”، أو عبر ربط سككي بري يربط بحر قزوين بالخليج، ويمتد نحو آسيا الوسطى، وحتى البحر المتوسط لاحقًا.

المشروع الصيني لا يحمل بضائع فقط، بل يحمل مفاهيم جديدة للقوة: أن تكون التجارة مصدر نفوذ، وأن يكون الميناء أهم من القاعدة العسكرية، وأن تكون السكك الحديدية أكثر خطورة على واشنطن من حاملات الطائرات. لهذا، فإن دخول إيران في هذا المشروع، بكل طاقتها وموقعها، لم يكن مجرد خيار اقتصادي، بل إعلان انضمام إلى محور جيواقتصادي مناهض للهيمنة الغربية. ومن هنا، بدأت الولايات المتحدة، ومعها إسرائيل، في رسم استراتيجيات لعرقلة هذا التمدد، ليس عبر المواجهة الاقتصادية فقط، بل عبر القصف، والحصار، والإعلام، وحروب الظل.

لكن المفاجأة جاءت من الهند، الحليف الإستراتيجي الجديد للغرب، التي طُلب منها الدخول على خط “الممر البديل”، والذي أطلق عليه “الممر الاقتصادي الهندي – الشرق الأوسطي – الأوروبي”، وهو طريق تجاري يمر من الهند إلى الإمارات والسعودية، ثم الأردن، فإسرائيل، وصولًا إلى أوروبا. هذا المشروع، الذي تم تقديمه في قمم اقتصادية سابقة، بدا وكأنه نسخة مضادة لطريق الحرير، يُقصي إيران تمامًا، ويُحيّد باكستان، ويضع إسرائيل في موقع الوسيط التجاري العالمي. بهذا الشكل، لا يعود الخليج محطة تصدير النفط فقط، بل يتحول إلى عقدة وصل بين الشرق والغرب، ولكن على الطريقة الأمريكية – الهندية – الإسرائيلية.

هذا ما دفع باكستان، الجارة النووية التي لطالما خاضت صراعات دموية مع الهند، إلى إعادة تموضعها الاستراتيجي، حيث بدأت تقترب من الصين أكثر، وتُجدد تحالفها التقليدي مع إيران، خاصة في ظل المشاريع المشتركة في ميناء “جوادر” الباكستاني، الذي تموله الصين ويُعد حجر أساس في مشروع “الحزام والطريق”. ومع تهميش باكستان من الممر الهندي البديل، وتهديد أمنها القومي بوجود خط تجاري يمر عبر أعدائها التاريخيين، كان طبيعيًا أن تبدأ إسلام آباد بالنظر شرقًا، لا غربًا، وتلتحق بالمشروع الإيراني – الصيني، وتنسجم أكثر مع توجهات بكين وطهران السياسية والاقتصادية.

غير أن إسرائيل لم تقف مكتوفة الأيدي، فبدأت، بدعم أمريكي، بتكثيف ضرباتها الجوية ضد المواقع الإيرانية، سواء في سوريا أو في الداخل الإيراني، وكان آخرها استهداف ميناء بندر عباس، القلب البحري لمشروع طريق الحرير في الخليج. القصف الإسرائيلي لبندر عباس لم يكن مجرد استهداف عسكري، بل رسالة سياسية وأمنية معقدة مفادها أن “التمدد الصيني في الخليج عبر إيران لن يمر دون نار”. ولم تكتف إسرائيل بالضربات المباشرة، بل شنت كذلك حملة إعلامية ضخمة تُشيطن فيها إيران، وتُصوّرها كخطر نووي يهدد وجود دول الخليج والمنطقة، لتفتح باب التطبيع والمال والسلاح أمامها.

وهنا كان الفخ: استطاعت إسرائيل، وبذكاء مصلحي حاد، أن تستدرج إيران إلى مربع التصريحات النووية، فبدأ المسؤولون الإيرانيون يلوّحون بأن بلادهم تملك القدرة على تطوير السلاح النووي. وهو ما كانت تنتظره واشنطن وتل أبيب منذ سنوات، لتقدّما هذا التصريح كـ”دليل” على نوايا إيران العدائية، وتستخدمانه أداة لابتزاز دول الخليج، ودفعها إلى أحضان إسرائيل تحت شعار “نحميكم من الخطر الإيراني”. وهكذا، تحوّل “البعبع النووي الإيراني” إلى ورقة ضغط ضخمة، تُستغل لتبرير الصفقات الأمنية، وفتح الأجواء والموانئ والأسواق لشركات السلاح الإسرائيلية والأمريكية.

وسائل الإعلام الغربية، ثم العربية التابعة، لعبت دورًا محوريًا في صناعة هذا الخوف. فتم تضخيم كل حدث في إيران، وتقديمه على أنه تهديد للعرب والمسلمين، بينما جُرّدت إسرائيل من أي مسؤولية في إشعال المنطقة. لقد تم قلب المشهد: أصبحت إيران هي العدو، والصين هي الخطر، وطريق الحرير مؤامرة، بينما المشروع الأمريكي – الهندي – الإسرائيلي يُقدّم كطوق نجاة! ولم يُسمع صوت عربي واحد، رسمي أو إعلامي، يُناقش حقيقة ما يجري، أو يطرح سؤالًا بسيطًا: من المستفيد من كل هذا؟ ومن الذي يحرق الموانئ ويقصف الطرق ويغتال العلماء؟

في الواقع، ما يجري هو معركة كبيرة على مستقبل الخليج والعالم الإسلامي. هل نبقى مستهلكين على الهامش، تابعين للمراكز الغربية؟ أم ندخل في شراكات استراتيجية مع القوى الآسيوية الصاعدة؟ إيران، رغم الضغوط والحصار، اختارت أن تكون جزءًا من مشروع صاعد لا يُدار من البنتاغون. والصين، رغم التهديدات والعقوبات، مستمرة في استثمارها العميق في إيران وباكستان وآسيا الوسطى. وإسرائيل، من جهتها، تُقاتل ليس لحماية أمنها فقط، بل لحماية دورها كوسيط اقتصادي وأمني بين العرب والغرب، وتقاتل لأجل تأبيد ضعفنا وتفكيكنا وابتزازنا.

إن طريق الحرير اليوم لم يعد مجرد ممر للتجارة… إنه طريق للصدام، تتقاطع فيه مصالح الشرق الطامح، والغرب المتهاوي، وإسرائيل التي تُقاتل بالوكالة من أجل استمرار النظام العالمي الذي وُلد بعد الحرب العالمية الثانية. وإذا لم نُدرك هذا التحول، ولم نحسم خيارنا كعرب ومسلمين، فسنُصبح مجرد ضحايا جدد على قارعة طريق لم نرسمه… لكنه سيعبر فوقنا بكل الأحوال.