عالمٌ جديد مع ترامب

محمد عبدالله الظهوري

تتوالى المفاجآت من البيت الأبيض عبر القرارات التي يتخذها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، وهو أمرٌ متوقع نظراً إلى ولايته الأولى التي عملت على إبراز عنصر المفاجأة، وعدم الاكتراث بالمُسلَّمات التي ارتبطت بتربع واشنطن بصفتها قطباً أوحد في النظام الدولي.
إن السياسات التي يتبعها ترامب مع العالم، بدءاً من الأميركتين، مروراً بأوروبا، والشرق الأوسط، وشرق آسيا، وأفريقيا، وضعت صنّاع القرار أمام تساؤلات عدة حول المقاربة الأميركية، فهل هي مؤقتة أم مستدامة؟ وإن كانت مؤقتة، فما الضامن أن رجوعها لسابق عهدها لن يكون مؤقتاً؟
الأمر الذي لا يختلف عليه الكثيرون هو أن سياسات الدول تُدار بالمصالح، لكن هل تجاوزت الدول مبدأ المصالح الاستراتيجية، وبدأت تتجه نحو المصالح التكتيكية (القصيرة الأمد) مع زمن السرعة الذي نعيشه؟ بقدر ما قد يبدو هذا السؤال ساذجاً، فإن طرحه أصبح مهمّاً، فالحكومات التي بدأت تتمخض عن الديمقراطيات أصبحت تأخذ منحىً يمينيّاً صِرفاً، وهو ما يُهدد الديمقراطيات نفسها، وفكرة العالم الحُر الذي كان نتاجاً للحرب الباردة.
حضرتُ في عام 2022 مؤتمر ريغا في لاتفيا لحلف «الناتو»، وكان هناك اتفاق أوروبي – في مختلف القضايا التي طُرحت – على أنه على الرغم من أهمية واشنطن، فإنه لا بد أن يكون هناك استقلال عنها في القضايا الوجودية. واستمراراً لهذه الرؤية الأوروبية «الواقعية»، أوضح استطلاع نشره المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في فبراير الماضي، وقد طبقه المجلس في 14 دولة أوروبية، أن نسبة الذين وصفوا الولايات المتحدة بأنها شريك، فاقت نسبة الذين وصفوها بالحليف، وهو ما يُفسر الرؤية التي بدأ الأوروبيون في تكوينها خلافاً لما كان متعارفاً عليه حول مكانتها لديهم سابقاً.
وتلي هذه التطورات ما نشرته صحيفة «فايننشال تايمز»، من أن الدول الأوروبية تعمل على خطة لتقديمها لترامب تتمحور حول نقل المسؤوليات المالية والعسكرية الأميركية في «الناتو» لها خلال 5 إلى 10 سنوات، على أن تُعرض في قمة قادة «الناتو» في يونيو 2025. لا شك في أن هذا الأمر يمكن تفسيره على أن أوروبا خضعت لمقاربة ترامب حول زيادة الإنفاق العسكري، لكن هذه الزيادة ستخلق معها تصوراً مختلفاً لقضاياها، ولا ندري هل سيؤدي الدور الجديد إلى تقليل القواعد العسكرية الأميركية؟ وهل زيادة الإنفاق التي طالبت بها واشنطن مجرد بداية لمراحل أخرى من الزيادات التي سيطالب بها سادة البيت الأبيض مستقبلاً؟
إن ما يقوم به الأوروبيون يُذكّرنا بالمفكر الألماني، إيمانويل كانط، الذي قال «إنه ينبغي علي، لذلك فأنا أقدر»، فنهجهم الذي بدأ يأخذ منحىً «قد يكون مستقلاً نسبيّاً» عن واشنطن، يرمي إلى إيصال رسالة مفادها أن أولوية أوروبا هي أوروبا، وأولوية كل دولة أوروبية هي نفسها. وعلى الرغم من تحقيق واشنطن هدفها من المقاربة الحالية، فإن ما سيتمخض من عبء على المواطن الأوروبي، قد تطال تداعياته استقرار هذه الدول التي كانت سبباً في الحربين العالميتين.
إن التوجس العالمي من مقاربة واشنطن الحالية في سياستها الخارجية ستعقبه تغيرات في مقاربات الأنظمة السياسية الديمقراطية داخليّاً وخارجيّاً قبل غيرها من الأنظمة غير الديمقراطية. وبطبيعة الحال فإن محصلة هذه التغيرات ستخلق توجهات بموازين جديدة قد تُغير هيكل النظام الدولي، أو على الأقل تُعيد تعريف ماهية الأحادية القطبية التي عرفناها.

الاتحاد الظبيانية
*باحث في الشؤون الأميركية والإسرائيلية – مركز تريندز للبحوث والاستشارات