عامان مرا على استشهاد محمد برهوم، ابن أختي، قطعة من القلب والذاكرة، الشاب الذي غادرنا في ريعان عمره وترك فينا فراغًا لا يملؤه شيء. عامان منذ غاب محمد، وما زال الغياب يوجع، كأن الرحيل وقع بالأمس.
محمد لم يكن مجرّد قريب أو فرد من العائلة، بل كان روحًا تضيف للحياة معنى. كان طيب القلب، نقي السريرة، جميل الابتسامة، هادئًا في حضوره، عميقًا في إحساسه بالناس. عاش بسيطًا، مخلصًا، متواضعًا، وكان يحمل بين ضلوعه حبًّا لا حدود له لعائلته، لوطنه، ولأرضه التي أحبّها حتى آخر نفس.
غاب محمد، وترك خلفه زوجته الصابرة ديانا، وطفلتين جميلتين هما جوري وكِندة، فراشتان صغيرتان تمشيان بخطوات الأب الذي لم تكتمل حكايته.
ديانا، الأم والأب معًا، تواصل اليوم رحلة الكفاح بين خيمة وأخرى، تبحث عن مأوى آمن في غزة التي ضاقت بأهلها، وتحمل في قلبها وجع الفقد وأمانة التربية والحياة.
كم من ليلٍ طويل مرّ عليها وهي تضم طفلتيها لتخفي عنهما قسوة البرد والخوف، وكم من لحظةٍ نظرت فيها إلى السماء تستعيد صورة محمد، تدعو له وتستمد من ذكراه قوة على الصبر.
محمد لم يكن شهيدًا بالصدفة، بل كان مشروع إنسان شريف آمن بقضيته. نشأ في بيتٍ مناضلٍ ووفِيّ، وتربّى في أحضان حركة فتح التي شكّلت جزءًا من وعيه وهويته، فحمل رايتها بإخلاص، وعاش بروح الفتحاوي الأصيل الذي يرى في النضال شرفًا وفي خدمة الناس واجبًا. كان مؤمنًا بأن الحرية تستحق، وأن الكرامة لا تُشترى، وأن فلسطين تستحق منّا الحياة والموت معًا.
كل من عرف محمد يعرف أنه لم يكن يحب الأضواء، ولم يسعَ إلى مجدٍ أو مكانة. كان يعمل بصمت، يمدّ يده لمن يحتاج دون أن يُقال عنه، ويزرع البسمة في وجوه من حوله. كان قريبًا من الناس، يسمعهم، يواسيهم، ويشاركهم أفراحهم وأحزانهم. في حضوره كانت الطمأنينة، وفي غيابه فراغٌ لا يُملأ.
اليوم، وبعد عامين على استشهاده، لا زلنا نرى أثره في كل زاوية من البيت، في أحاديثنا التي تبدأ وتنتهي بذكراه، في صورته التي تزيّن الجدار وتُضيء العيون بالدمع والفخر. نفتقده في المناسبات، في الأعياد، في كل لحظةٍ كان فيها حضوره يملأ المكان دفئًا وبهجة.
أيها الشهيد الحبيب، يا محمد،
نم قرير العين، فذكراك لم تغب، ولن تغيب.
نم بسلامٍ وأنت تسمع أسماء جوري وكِندة تتردد على الألسن، وهما تكبران على حبك، ترويان للناس أن لهما أبًا بطلًا لم يغِب إلا جسدًا.
نم مطمئنًا يا ابن أختي، فذكراك تسكننا، وصورتك ترافقنا، وسيرتك أصبحت منارةً لأبنائنا وبناتنا.
يا محمد، رحيلك علّمنا معنى الفقد، لكنه علّمنا أيضًا معنى الصبر والثبات. أنت لست مجرد ذكرى في دفتر الأيام، بل قصة حياةٍ محفورة في القلب، واسمٌ نردده كل صباحٍ ومساءٍ بدموعٍ لا تجفّ، وبدعاءٍ لا ينقطع.
سلامٌ عليك في الخالدين، وسلامٌ على كل الشهداء الذين رحلوا وبقينا نحمل وصاياهم.
وسيبقى اسمك، يا محمد، شاهدًا على جيلٍ أحبّ الحياة كما أحبّ الشهادة، جيلٍ لم ينكسر رغم الحصار والموت، لأن جذوره ضاربة في أرضٍ لا تموت
								
															




