في زمنٍ تختلّ فيه المعايير، ويُعاد فيه تعريف الضحية والجاني وفق ميزان القوّة لا ميزان العدالة، لم يعد الصمت موقفًا محايدًا، بل تحوّل إلى شراكة غير معلنة في الجريمة. قبل عامٍ كامل، اختطف الاحتلال الإسرائيلي الطبيب حسام أبو صفية، مدير مستشفى كمال عدوان في غزة، من داخل المستشفى، لا لأنه حمل سلاحًا، بل لأنه أنقذ الأرواح.
في تلك اللحظة، لم يكن حسام أبو صفية مجرد طبيب يؤدي واجبه المهني، بل كان خط الدفاع الأخير عن الحياة في قطاعٍ محاصرٍ يُذبح تحت القصف. لم تشفع له مهنته، ولا قسمه الطبي، ولا حتى كونه أبًا مكلومًا فقد ابنه في هذه الحرب. اقتُحم المستشفى، لا لحماية المرضى، بل لاختطاف الطبيب نفسه. مشهدٌ واحد يكفي لتلخيص الحقيقة: الاحتلال لا يحارب من يقاومه فقط، بل يحارب من يُبقي ضحاياه أحياء.
إن اختطاف الدكتور حسام أبو صفية من داخل مستشفى أثناء تأدية واجبه الإنساني ليس حادثًا عابرًا ولا “إجراءً أمنيًا”، بل جريمة سياسية وأخلاقية مكتملة الأركان. فالاحتلال لا يخشى السلاح بقدر ما يخشى الشهود، ولا يرتعد من المقاتل كما يرتعد من الطبيب، لأن الطبيب يُبقي الجريمة حيّة، والضحية الحيّة تروي، والرواية تفضح.
في زنزانته، لا يُحتجز جسد حسام وحده، بل يُحتجز معنى الطب نفسه. تُكبَّل يدان كانتا تضمدان الجراح، ويُداس قسم أبقراط تحت أحذية الجنود، ويُعلن عمليًا أن إنقاذ الإنسان فعلٌ عدائي يجب قمعه. أي كيان هذا الذي يرى في السماعة الطبية تهديدًا؟ وأي أخلاق تلك التي تخاف من طبيبٍ أعزل؟
ما تعرّض له الدكتور حسام أبو صفية ليس حالة فردية، بل جزء من سياسة ممنهجة تستهدف الكوادر الطبية في غزة. المستشفيات تُقصف، غرف العمليات تُدمَّر، سيارات الإسعاف تُستهدف، والأطباء يُقتلون ويُعتقلون ويُعذَّبون، في انتهاك صارخ لكل القوانين والأعراف الدولية، وعلى رأسها اتفاقيات جنيف والقانون الدولي الإنساني. لقد تحوّل الطب في غزة إلى فعل مقاومة، لا لأنه يحمل سلاحًا، بل لأنه يُصرّ على حماية الحياة وسط مشروع إبادة مفتوح.
وقبل حسام أبو صفية، كان الطبيب عدنان البرش، رئيس قسم العظام في مستشفى الشفاء، شاهدًا دامغًا آخر على هذه الجريمة المتواصلة. اختطفه الاحتلال من داخل المستشفى، واحتجزه في سجونه، حيث استُشهد تحت التعذيب، وسط تقارير صادمة عن تعرضه لانتهاكات جسيمة، من بينها الاعتداء الجنسي. لم يكن استشهاده جريمة قتل فحسب، بل فضيحة أخلاقية عالمية كشفت طبيعة المنظومة القمعية الإسرائيلية، وعرّت في الوقت ذاته خواء الخطاب الدولي الذي يرى الجرائم ثم يختار الصمت.
وهنا يبرز السؤال الأخطر: أين العالم؟
أين المنظمات الحقوقية الدولية من اعتقال طبيب؟
أين منظمة الصحة العالمية، واللجنة الدولية للصليب الأحمر، ونقابات الأطباء حول العالم، من جريمة تُرتكب على مرأى الجميع؟
إن الصمت أمام سجن طبيب ليس حيادًا، بل تواطؤ. والاختباء خلف لغة “القلق” و”المتابعة” ليس دبلوماسية، بل مشاركة غير مباشرة في الجريمة. فعندما يُعتقل طبيب لأنه أنقذ الأرواح، ويصمت العالم، فإن الرسالة تصبح واضحة: بعض الأرواح لا تستحق الحماية.
من غزة، من تحت الركام، ومن بين أنين الجرحى، يخرج نداءٌ لا يحتمل التأويل:
أطلقوا سراح الطبيب حسام أبو صفية فورًا ودون قيد أو شرط.
أوقفوا استهداف الأطباء والمستشفيات.
دافعوا عن كرامة المهنة، وعن شرف القسم الطبي، وعن حق الإنسان في العلاج.
إن الدفاع عن حسام أبو صفية ليس دفاعًا عن شخصٍ بعينه، بل عن فكرة جوهرية: أن الطب يجب أن يبقى فوق الصراعات، وأن الطبيب ليس هدفًا، بل ضمير البشرية الحي. وإذا سقط هذا المبدأ، سقط معه ما تبقّى من إنسانية هذا العالم.
قضية الدكتور حسام أبو صفية اليوم هي مرآة للضمير العالمي:
إمّا أن ينتصر العالم للإنسان،
وإمّا أن يسقط في صمت العار.
قد يملك الاحتلال الزنازين، لكنه لا يملك الزمن.
وقد يعتقل الأجساد، لكنه يعجز عن اعتقال الحقيقة.
الحرية للطبيب حسام أبو صفية.
أوقفوا الحرب على الأطباء… وعلى الحياة نفسها.
ختامًا
ليست قضية الدكتور حسام أبو صفية حدثًا عابرًا في زمن الحرب، بل علامة فارقة في الصراع بين الإنسانية والوحشية. فإما أن يقف العالم مع الطبيب الذي أنقذ الأرواح فاختُطف، أو يختار أن يكون شاهد صمتٍ جديدًا على جريمة مكتملة الأركان. إن الحرية لحسام أبو صفية ليست مطلبًا شخصيًا، بل استحقاقًا أخلاقيًا واختبارًا حقيقيًا لضمير هذا العالم.
الحرية للطبيب الأسير…
والعدالة لكل من جعل من إنقاذ الحياة جريمة.
ناشط سياسي وكاتب عربي فلسطيني، عضو الأمانة العامة للشبكة العربية للثقافة والرأي والإعلام – شيكاغو.







