للعام الثالث يقف تلاميذ غزّة وسط العراء بين شهيد وجريح، جوعى وعطشى بلا مأوى وتحت نيران القصف المتواصل، وبينما ينطلق العام الدراسي الجديد، يواصل تلاميذ غزّة بحثهم عن النجاة من ويلات الحرب، فاليوم أول أيام العودة إلى المدارس في فلسطين، وبينما ينهض التلاميذ لارتداء ملابسهم وتناول طعام الإفطار، قبل أن يحملوا حقائبهم المدرسية ويلتحقوا بطابور الصباح، ينشدون للبلاد نشيدنا الوطني، ينهض أطفال غزّة من نومهم في الخيمة، فلا يجدون طعامًا أو شرابًا، فيخرجون للبحث عن تكية توفر لهم القليل من الطعام، هذا إن وجدوا ذلك. وهذا هو الحال المأساوي المؤلم، وليس أصعب من ذلك شيء على هذا الكوكب، الذي يقف متفرجًا على أبشع مأساة يعيشها بشر في العصر الحديث، وهو يشاهد بالصوت والصورة الإبادة المستمرة ولا يتحرك بشكل يمنع ويوقف هذه المقتلة.
يا تلاميذ غزّة، إن الحياة لم تنصفكم حين دفعتكم الأقدار لتعيشوا هذا الفصل من الجحيم، وفي غرابة يقف العالم صامتًا يشهد على كل الجرائم التي تُرتكب بحقكم، وما من شك أن هذا الصمت أحد الأسباب التي تجعل القتلة يستمرون في ارتكاب المزيد من الجرائم وتدفعهم إلى مواصلة الإبادة، خاصة مواقف ترمب والولايات الأمريكية التي تتربع على عرش العالم كصاحبة القوة العظمى الأولى، وهي تواصل رفعها لحق الفيتو دون حق في وجه كل محاولة محقة لوقف الإبادة، بل تتعالى بجبروتها وترسل بأطنان الأسلحة والذخائر، وتوفر الغطاء السياسي الهمجي الذي يمنح حكومة نتنياهو مواصلة حرب الإبادة.
يا تلاميذ غزّة، ما من شك أن الواقع الصعب، وما تعيشونه من ظروف مستحيلة، وما فقدتموه من حق في التعليم وفي الحياة والعلاج والطعام والأمن والأمان، وفي النجاة من هول ما يحدث، يجعلكم لا تتوقعون من العالم شيئًا، فقد انتظرتم طويلًا ولم يتدخل أحد لإنقاذكم، ويا له من زمن مرّ بمرارة الأحداث وقسوتها مع تواصل عمليات الإبادة، في ظل تصريحات متوعدة بما هو أكثر دموية ونزوحًا وتجويعًا، وسط خطط الاحتلال البري، وعمليات القضم والضم، تحت ذرائع شتى في تتابع الأيام والأشهر التي شهدت أبشع المجازر، وويلات النزوح والفقد، وعذابات التهجير وهشاشة مواقف الأشقاء والأصدقاء.
يا تلاميذ غزّة، يعاني زملاؤكم في الضفة والقدس من شر المستوطنين الذين يتربصون بهم في الطرقات، والجنود المدججون بالسلاح يحرسون اعتداءات المستوطنين بينما لا يجد تلاميذ القدس من يحميهم، وهم يتعرضون لتنكيل مستمر، ويتعرضون هذه الأيام لخطر يهدد مناهجهم التعليمية التي يلوثها الاحتلال بمنهاج تدريسي مغاير. صحيح أن الحديث عن المناهج الدراسية وأنتم تعيشون خطر الموت جوعًا ترف، إلا أن الخطر الوجودي بالطمس والتغييب واحد، خطر يتهدد الوعي والثقافة كما يستهدفكم بالموت والإبادة.
يا تلاميذ غزّة، يبدأ العام الدراسي هذا اليوم، نعلم أن مجرد سماعكم هذا الخبر يزيد الحزن في قلوبكم، ولم نقصد ذلك، بل نتقصد القول ليسمع العالم الذي لم يسمع طيلة عامين وهو يرى بالصورة واقع الإبادة، لعله هذه الأيام يلتفت لأمر التعليم الذي للعام الثالث مفقود في غزة، وكل شيء في غزة مفقود. جيل لثلاث سنوات لم يذهب إلى مدرسة، يكبر بين خيمة ومركز إيواء، يحاصره الموت من كل الجهات، وهو بالكاد على قيد الحياة، يقف بجسد منهك وقدمين أعياهما النزوح والجوع وسط واقع الخراب.
يا تلاميذ غزّة، يبدأ العام الدراسي هذا اليوم، والتلاميذ في الضفة والقدس ليسوا بأحسن حال، فمشاهد الإبادة الواقعة عليكم تركت ندبًا في قلوب كل من رأى وشاهد، كما أن قطعان المستوطنين وجنود الاحتلال يقطعون أوصال المدن والقرى، ويضعون الحواجز والبوابات الفاصلة، ويداهمون المدارس ويعتقلون الطلبة والمعلمين، وتمامًا يحدث في القدس ما هو أبشع، حيث المنهاج يتعرض لموجة مسعورة من التهويد، والمدارس تتعرض لإجراءات عقابية جماعية وفردية، والحال في فقر مطبق، ومصائر الناس تسير إلى مجهول لا يدري أحد نهايات الطريق. صحيح أن واقع الإبادة في غزّة يا تلاميذ غزّة لا يشبهه أي واقع، إلا أن ما يحدث في الضفة والقدس من عنصرية وابتلاع للأرض وضم وقضم وتهويد، يجعل المشهد العام أكثر بؤسًا، والتلاميذ يخوضون هذا الشقاء المرير وهم يسيرون نحو مدارسهم، حاملين حقائبهم على ظهورهم، وفي ذاكرتهم مشاهد القتل والدمار والخراب والنزوح والقصف والجوع، وقلوبهم مسكونة بالحزن والألم على ما يحدث لزملائهم تلاميذ غزّة، ولسانُ حالهم يتساءل: متى يعود تلاميذ غزّة إلى مدارسهم؟