السياسي -وكالات
وحده المخرج السوري عبداللطيف عبدالحميد (1954- 2024) من أضحك السوريين عشّاق السينما، وأبكاهم في آن واحد، كأحد تلاميذ المدرسة السينمائية الروسية المتألقين، حيث درس فن الإخراج.
استثمار جيد
ووحده أيضاً من جعل للسينما السورية جمهوراً واسعاً من كل شرائح المجتمع، فلم يُعن فيلمه بشريحة المثقفين أصحاب الخبرة بالمشاهدة السينمائية، فكانت أفلامه التي بدأت مع ليالي ابن آوى عام 1988 واختتمت تجربته بفيلم الطريق العام 2022، وبينهما أربعة عشر فيلماً كان من أشهرها رسائل شفهية، نسيم الروح، صعود المطر، عزف منفرد، مطر أيلول، قمران وزيتونة. ويكمن سرّ إبداع عبد اللطيف عبد الحميد في نهله قصص أفلامه من بيئته الريفية الساحلية التي خبرها جيداً، وقد نسجها بمدماك أساسي هو لهجة أهل الساحل السوري، مُعيداً اكتشاف جمالياتها، بوجهيها الكوميدي والتراجيدي، مُجيداً في استثمارها، لكنه غالى أحياناً في سرد قصص لم تعد تصلح لواقع زماننا، ولذلك أخفقت بعض أفلامه، في مقدمتها “العاشق”، الذي لم تتوافر فيه مقومات نجاح العديد من أفلامه فنياً وفكرياً، وهذا ما لم ينتبه له العديد من مبدعي سينما المؤلف التي تنتمي لها أفلام عبد الحميد والتي يُعدّ من روادها في سوريا.
جوائز وخلافات
كانت بعض أفلامه، وإن حظيت بالعديد من الجوائز، سواء في مهرجانات عربية، أو دولية، مثار خلاف بين الصحافيين والنقاد، فلا توافق تامٍ حولها، فكان التطرف سمة لاستقبالهم لها سواء في السلب أو في الإيجاب، يخلط السياسة بالفن من دون منطق، وإن كان الفن لا يبتعد عن السياسة، خاصة أن أفلام عبد الحميد كانت تضمر مواقفه السياسية بمواربة متقنة وقابلة للتأويل.
فكيف يكون بعيداً عن السياسة من بدأ بانتقاد الأب المتسلط والمتجبّر( جسّده باقتدار الفنان أسعد فضة) في فيلمه الأول ليالي ابن آوى، والهشّ الذي لا يمكن له أن ينام إن لم تسعفه زوجته (جسدتها الراحلة نجاح العبد الله ببراعة) بإطلاق الصفير الذي تتقنه كي تبعد عنه أصوات “ابن آوى”، كدلالة على أن لا فكاك لأي قائد عن شعبه، لأنهم ركيزته وسنده في أوقات الشدة مهما كان جباراً.
والفيلم له دلالات واسعة الطيف ومشغول بحرفية متقنة في بناء الشخصيات كما في العديد من أفلامه إلى درجة أن الشخصية تحمل اسم صفاتها كما في فيلم ” ما يطلبه المستمعون، إذ جاءت شخصية ( أبو جمال ) التي جسدها الفنان جمال قِبْش بكل أبعادها الفنية والفكرية والشعورية، تحمل صفات الجمال بأفعالها، فقد استقبل أهل القرية من دون أي تذمر حتى لو كان لديه أعماله، لكي يستمعوا إلى الأغاني التي طلبوها من برنامج ما يطلبه المستمعون، فرصد لنا المخرج حالة إنسانية نفتقدها أيضاً وهي إحساسنا بالآخرين ومشاركتهم فرحهم بل قل المساهمة في خلقه، كما أن هذه الشخصية احتضنت شخصية “سليم/ الفنان فايز قزق” الذي يشكو من إعاقة في النطق، كأحد أفراد أسرته، واحتضنت كذلك شخصية ” صالح/ مأمون الخطيب” الذي فقد عمله.
فتقديم المخرج الراحل عبد الحميد غالباً في أفلامه لشخصيات نبيلة، منطلقه افتقادنا طغيان حضورها في الواقع فكان يسعى لزرع صفاتها في نفوسنا كمشاهدين لعلّ مجتمعنا يستعيد توازنه قليلاً. وإذا كان المخرج قد قدّم شخصيات من هذا النوع تنتمي إلى المدينة في فيلمه الآسر “نسيم الروح” العام 1998 الذي جسّد بطولته بأداء ساحر الفنان بسام كوسا، فهو في ما يطلبه المستمعون قدّم شخصيات ريفية من النوع ذاته، بالإضافة إلى سخاء عطائها الإنساني دون مقابل. ولعل فيلمه الثاني ” رسائل شفهية” الذي ثبّت للمخرج عبد الحميد جمهوره الواسع خير شاهد على تلك الشخصيات وتنوعها، وهو الفيلم الذي أطلق نجومية الفنان فايز قزق التي بدأ بنسجها في العرض المسرحي ” مغامرة رأس المملوك جابر” عام 1986 مع المخرج العراقي د. جواد الأسدي الذي أخرج عروضاً عدة في دمشق. وهو الفيلم السوري الاستثناء الذي استمرت عروضه طويلاً وفي معظم المحافظات السورية التي عرض فيها.
استهداف واستحقاق
سعى المخرج الراحل عبد اللطيف عبد الحميد في معظم أفلامه إلى أن ينافس الشعراء من خلال إبداعات سينمائية يمكن وصفها بالقصائد التي تهدف إلى سموّ الإنسان وتهذيبه تماماً كما هو استهداف الشعر والأدب عموماً، وقد أنجز ذلك بتفوق، ما يدفعنا لأن ندّعي أنه سرق بوساطته الأضواء من الشعراء، وهي أضواء استحقها بجدارة على العديد من أفلامه.