في قصيدة “عبّود” تتجلّى الكتابة الشعرية بوصفها فعل مقاومة لغوية ضد النسيان، وفضاءً مفتوحًا لاستعادة المعنى الإنساني في زمن القهر والاحتلال. النصّ لا يقدّم الأسير كموضوع سياسي، بل كرمز كونيّ تتقاطع فيه التجربة الفردية مع الذاكرة الجماعية لفلسطين. إنّ الخطاب الشعري هنا لا يُنشئ سردًا عن غياب، بل يُقيم احتفالًا بالحضور الرمزي، إذ يتحوّل عبّود إلى نداءٍ متكررٍ يُعيد صياغة العلاقة بين الأنا والوطن، بين اللغة والوجع، وبين القيد والحرية. فالقصيدة تُبنى على نبرة خطابية ترتيلية، تتوسّل التكرار لتثبيت الاسم في وجه التلاشي، حتى يغدو النداء ذاته شكلًا من أشكال المقاومة الأسلوبية. إنّ “يا عبّود” ليست مجرد استدعاء لغائب، بل فعل استحضار لجوهرٍ يتجاوز الجسد نحو المطلق، لذلك فإن النصّ ينهض من منطقة الحنين إلى منطقة الإيمان، ومن الانفعال الفردي إلى الوعي الجمعي الذي يرى في الأسير صورة الوطن نفسه.
القصيدة تعيد تشكيل الحقول الدلالية في ثلاث دوائر أساسية: الصلابة والفداء، القداسة والروح، الوطن والأمومة. في الأولى ينبثق المعجم من مفردات الحديد والنهوض والانكسار ليشي بأنّ الرجولة الحقيقية ليست في انتفاء الألم، بل في تجاوزه. في الثانية تتحوّل اللغة إلى صوفية خالصة حين تقول “في صدرك شيء من قدسٍ وفي يديك ملامح الأنبياء”، فيغدو الأسير نبيّ الأرض الممتحن بالصبر والضوء. أما الحقل الثالث فيقدّم فلسطين كأمّ كبرى، والأمّ كفلسطين مصغّرة، حيث تلتقي الحجارة والمطر والشجرة في شبكة رمزية تجعل من الطبيعة مرآة للأمومة ومن الأرض حضنًا دائمًا للغائبين. هكذا يصبح الوطن في النص كائنًا حيًّا يتنفّس بأسماء أبنائه، ويكتمل بعودتهم.
يتّسم الأسلوب بثراء بلاغي وإيقاع داخلي نابض بالحياة، فالقصيدة تعتمد التكرار بوصفه محركًا دلاليًا، لا زخرفًا لفظيًا. هذا التكرار يمنحها طابع الإنشاد الجمعي، حيث تتحوّل اللغة إلى صلاة مفتوحة تُقال باسم الحرية. نلحظ أيضًا تصعيدًا عاطفيًا يبدأ من الحنين الشخصي لينتهي في يقينٍ لاهوتيّ يرى في العودة وعدًا إلهيًا، وفي السجن امتحانًا سماويًا لا يقهر. هذه البنية التصاعدية تمنح النص بعدًا طقسيًا يجعل من الأسير كائنًا أسطوريًا يمثّل دورة الفداء والميلاد، فيتحوّل النص إلى ما يشبه الإنجيل المقاوم للوجع، حيث الكلمة تخلّص من القيد.
القصيدة تقوم على جدلية دقيقة بين الغياب والحضور، فالأسير غائب جسدًا لكنه حاضر في كل تفصيلة لغوية، والذات المتكلمة حاضرة بالجسد لكنها مسجونة في دائرة الانتظار. هذا التبادل الرمزي يعيد تعريف مفهوم الحرية: فالأسير في السجن أحرّ من شعبٍ بلا كرامة، والمحرر في الخارج أسير لحنينه. إنّها مفارقة وجودية تشكّل محور الدلالة العميق في النص، وتؤكد أنّ الحرية ليست مكانًا بل وعيًا، وأنّ الأسر الحقيقي هو انفصال الإنسان عن أرضه لا وجوده خلف القضبان. من هنا تنبثق العبارة المفصلية: “أنا العائد من السجن لكنّي لم أخرج من فلسطين”، فهي تلغي الثنائية بين الداخل والخارج لتعلن اتحاد الذات بالوطن اتحادًا صوفيًا.
تستعير القصيدة من الرمز الديني والتوراتي طاقته التعبيرية لتجعل من عبّود نبيًّا حديثًا يحمل وجع الأرض كرسالة. توظيف مفردات القداسة والأنبياء والسماء والمطر يجعل من الحرية فعلًا ميتافيزيقيًا، ويحوّل الأسر إلى لحظة اصطفاء. هذه النزعة الروحية تُخرج النص من إطار السياسي إلى رحابة الوجودي، حيث يتحول الألم إلى تطهير، والانتظار إلى عبادة. إنّ المقاومة هنا ليست في الفعل المسلح، بل في الصبر الجميل، وفي إصرار اللغة على البقاء نقيّة رغم ثقل الحديد.
من الناحية الجمالية، تحقق القصيدة توازنًا لافتًا بين الانفعال والوعي، فالعاطفة فيها عميقة لكنها منضبطة بلغة رشيقة مشبعة بالمجاز والطباق والمقابلة. يتجلّى الحس البلاغي في توتر الأزواج اللفظية: النور/الظلمة، الحضور/الغياب، السجن/الحرية، الأرض/السماء، وهي ثنائيات تولّد كثافة شعرية تجعل النص أقرب إلى مرثية فلسفية للأمل. اللغة مشبعة بالفعل الانفعالي (أقسم، أحنّ، أرى، أقول)، ما يمنحها حرارة وجدانية تجعل القارئ شريكًا في التجربة لا متلقيًا سلبيًا. إنها قصيدة تكتب من الداخل، من لحم الذاكرة، لذلك تأتي نبرتها حارة وشفافة في آن واحد.
إن القيمة الجمالية والإنسانية لقصيدة “عبّود” تتجسّد في قدرتها على تحويل المأساة الفردية إلى خطاب جمعيّ يتجاوز حدود الجغرافيا والسياسة. فهي ليست نصًا عن أسيرٍ بعينه، بل عن الإنسان الفلسطيني في كليّته، عن الكرامة وهي تُختبر كل يوم، عن الإيمان بالعودة كقانون كونيّ لا كحلم. عبّود هنا ليس اسمًا، بل فكرةٌ تتكثف فيها معاني الصبر والمقاومة والرجاء، وتتحول بفضله القصيدة إلى أيقونة للوجع المقدّس الذي يذكّرنا بأنّ الحرية ليست هبة، بل ولادة دائمة في رحم المعاناة. لقد نجحت الكاتبة في أن تجعل من اللغة ملاذًا ومن الشعر شهادة، لتؤكد أن الكتابة في زمن الاحتلال ليست ترفًا بل ضرورة وجودية، وأن القصيدة يمكن أن تكون سلاحًا أبلغ من الرصاص حين تكتب بهذا الصدق وهذا الجمال. هكذا تتوّج “عبّود” كواحدة من النصوص التي تضع الأدب الفلسطيني المقاوم في قلب المشهد الإنساني، وتبرهن أن الشعر، حين يتكئ على الحقيقة، يصير أكثر قدرة على تحرير الإنسان من سجونه كلها.




