«عربات جدعون» وصواريخ الحوثي

عبد الحليم قنديل

دعونا من البهلوانيات المعتادة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فقد أعلن «الكاوبوي» الهزلي، أن الحوثيين، أبلغوه استسلامهم، وأنه أمر في المقابل بوقف القصف الجوي الأكثف والأعنف على اليمن، وسوّق ترامب ما جرى باعتباره نصرا ساحقا لجلالته، بينما كانت الحقيقة شيئا مختلفا بالجملة، فقد آلت الحملة الأمريكية على اليمن إلى خسران مبين و»خيبة بالويبة»، وفشل الحشد العسكري الأمريكي الهائل، وبأقوى وأكبر حاملات الطائرات التي تملكها واشنطن، وجرّب ترامب حظه التعيس، وبغارات بلغ عددها الآلاف ضد ما تصورت واشنطن أنها مواقع ومخابئ للحوثيين، وأعلنت مرارا عن مقتل عدد كبير من قادة الحوثيين العسكريين، لكنه اضطر في النهاية للانسحاب بعد قصف متصل لخمسين يوما وليلة، أسقط الحوثي خلالها سبع طائرات درون أمريكية من طراز «إم. كيو.9»، وهي أغلى وأعقد مسيرات أمريكية، تبلغ تكلفة الواحدة منها 30 مليون دولار، وأضيفت السبع المتساقطات حديثا منها، إلى ضعفِها الساقط المدمر في زمن الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن، أي أن خسائر أمريكا في باب «الدرونات، وحدها، بلغت أكثر من 630 مليون دولار، بينما كان الحوثي، يسقط الطائرة «إم. كيو. 9» بصاروخ لا تزيد تكلفته على 500 دولار.

أضف إلى خسائر واشنطن في حملتها على اليمن، التي استمرت لأكثر من سنة، ما خسرته واشنطن في الحشد والتعبئة، وجولات القصف بالمقاتلات الشبحية والقنابل الخارقة للتحصينات، وهي تكاليف قد تصل إلى نحو عشرة مليارات دولار، ومن دون أن تكسب هدفا واحدا معلنا، لا في حماية سلامة مرور سفنها التجارية وقطعها البحرية، ولا حتى في حماية ربيبتها «إسرائيل»، التي شنت هي الأخرى خمس حملات جوية عنيفة ضد الحوثي، استهدفت مرافق مدنية محضة، ودمرت موانئ «الحديدة» و»رأس عيسى» مرات، إضافة لتدمير مطار صنعاء ومصانع إسمنت ومحطات كهرباء، ودونما نجاح يذكر في ردع «الحوثيين»، الذين واصلوا قصف كيان الاحتلال بطائراتهم المسيرة وصواريخهم المتطورة، ودونما تراجع عن قرارهم «الإيماني» في مواصلة حرب إسناد الفلسطينيين المظلومين المحاصرين في غزة.
ورغم سريان إشاعات وتهيؤات صاحبت إعلان ترامب المفاجئ بوقف قصف اليمن، إلا أن الضباب انقشع سريعا، وتبين أن اتفاقا جرى عبر مفاوضات غير مباشرة، بوساطة سلطنة عمان، كان المقاول اليهودي الصهيوني ستيف ويتكوف ممثلا شخصيا لترامب في التفاوض، بينما كان القيادي محمد عبدالسلام، ممثلا للحوثيين، وبعد تفاوض اتصل لأسابيع، أصر الحوثيون، على حصر الاتفاق في وقف إطلاق نار متبادل مع الأمريكيين دون «الإسرائيليين»، وخضعت إدارة «ترامب» للمطلب «الحوثي»، ربما بسبب الخسائر المالية الفادحة لواشنطن، ويأس الجيش الأمريكي، ورغبة ترامب في الخروج من الورطة اليمنية، مع ترك «إسرائيل» وحدها في مواجهة الحوثيين، والمحصلة، أن حرب الإسناد الأمريكي للكيان «الإسرائيلي» في اليمن، توقفت إلى حين، بينما أعلن الحوثي، عزمه على مواصلة حرب إسناد «غزة»، وإلى أحد الأجلين أو كليهما، إما فك حصار غزة، أو وقف حرب الإبادة الجماعية الأمريكية «الإسرائيلية» تماما، وقد يلقى ترامب بثقل ضاغط على بنيامين نتنياهو، وحكومته الأشد تطرفا، ويرغمه على قبول وقف إطلاق نار مؤقت مقابل إطلاق سراح عدد من الأسرى الأمريكيين و»الإسرائيليين» في غزة، وهو ما قد تلحظه من تحركات أخيرة للوسيطين المصري والقطري، بضوء أخضر أمريكي على ما يبدو، وأيا ما كانت حدود وطبيعة الصفقة المعد لها ومداها الزمني، فإنها مرتبطة حكما بترتيبات زيارة ترامب المقررة أواسط الشهر الجاري إلى الدول الخليجية الغنية، وطموح الرئيس الأمريكي لجني تريليونات الدولارات في صورة استثمارات لصالح أمريكا، وهو ما جرى الإعلان عنه حتى قبل الزيارة الترامبية الميمونة، ومن دون أن يقدم ترامب في المقابل، سوى إيحاءات بمسافة ما تفصله عن خطط نتنياهو وحكومته، التي أعلنت عن إتمام إجراءات التصديق على خطة سمتها «عربات جدعون»، ومن وراء الاسم التوراتي الوارد في «سفر القضاة»، والمنسوب إلى جدعون أحد أنبياء الحرب الصارمين في التاريخ العبراني القديم، تقضى الخطة الإسرائيلية الجديدة القديمة باحتلال كامل قطاع «غزة»، وتدمير ما تبقى فيها على نحو شامل، وطرد ملايين الفلسطينيين، وحشرهم في رفح، بين محور «فيلادلفيا» على الحدود المصرية، ومحور موراج الفاصل بين رفح وخان يونس، مع التحكم في توزيع الإغاثات الإنسانية من خلال شركات أمريكية خاصة بحراسة جيش الاحتلال، ثم تكون الخطوة الحربية التالية بتهجير ملايين «غزة» إلى مصر، وتحت شعار إخلاء غزة لتنفيذ خطة ترامب سيئة الذكر، على أن يجري ذلك كله بزعم أولوية القضاء على حماس وأخواتها، ولا يخفي ترامب تأييده لما ينوى كيان الاحتلال اقترافه، لكنه يريد ـ على ما يبدو ـ إخراجا مختلفا، يعطي له الأفضلية في صناعة القرار الأمريكي «الإسرائيلي»، ودونما مساس بأولوية «الاندماج الاستراتيجي» بين واشنطن وتل أبيب، يحاول ترامب التأكيد على أولوية دور «حكومة إسرائيل في واشنطن»، على «حكومة إسرائيل في تل أبيب»، ويحاول نزع مخالب نتنياهو في البيت الأبيض، على طريقة مفاجأته لحكومة نتنياهو، بالشروع في التفاوض النووي مع إيران، ثم قراره بإقالة مايكل والتز مستشاره للأمن القومي، بسبب التفاف الأخير عليه، وإدارته لمفاوضات سرية مع نتنياهو، حول خطط «ضرب إيران»، وإفشال المفاوضات النووية الجارية بوساطة «سلطنة عمان»، قبلها كان ترامب قد أمر نتنياهو علنا بالتفاهم مع تركيا على خرائط الداخل السوري، وبعدها كان قرار ترامب المفاجئ لكيان الاحتلال بالخروج من ملاعب قصف «الحوثيين»، وربما تقديم ترضيات صورية للنظم العربية الموالية لأمريكا، على طريقة اعتماد التسمية العربية للخليج، الذي تنعته طهران باسم «الخليج الفارسي»، أو التظاهر بحس إنساني إزاء مآسي الفلسطينيين في «غزة»، أو السعي لضم دول عربية مضافة إلى مدار ما يسمى «المعاهدات الإبراهيمية»، وكلها تصرفات عبثية لا تغير من الواقع المرير شيئا، وإن تصور «ترامب» أنها قد تفيد في الصراع الأمريكي متعدد الوجوه مع الصين، بعد صدمات فشل حروبه التجارية ورسومه الجمركية، التي أخفقت مبكرا في إنقاذ الاقتصاد الأمريكي، وزادت اضطراره للاغتراف من آبار الفوائض المالية في منطقتنا المنكوبة .
والخلاصة الموقوتة في ما جرى ويجرى اليوم، وفي الغد القريب، أن ترامب مهما ناور وداور مع نتنياهو، لا يستطيع التملص من التزامات واشنطن في دعم «إسرائيل»، والأخيرة هي «البقرة المقدسة» في السياسة الأمريكية، وعند كل الرؤساء الأمريكيين، وعند «ترامب» بالذات، الذي يفخر بدوره في التسليم لكيان الاحتلال بكل ما يريد، ولم يتراجع ترامب في اليمن إلا تحت ضغط صمود «الحوثي»، فلا شيء حربيا يفلح في اليمن بطبيعته الجغرافية «الأفغانية» معقدة التضاريس، ولا إمكانية لردع «الحوثيين» مع تطور إمكانياتهم التكنولوجية، وتفوقهم الظاهر على خصومهم اليمنيين في حرب «محو يمنية اليمن»، ومسارعتهم واستمرارهم في إسناد الشعب الفلسطيني، لا تبدو مرشحة للتوقف، وقد صاروا الجهة العربية الوحيدة المساندة بالنار للفلسطينيين، بما منحهم شعبية عربية عامة، قد لا تتوقف كثيرا عند ما جرى ويجري في الداخل اليمني الممزق، وليس صحيحا، أن المساندة «الحوثية» لم تضر بكيان الاحتلال، فقد نجح التحدي «الحوثي» في شل ميناء إيلات «الإسرائيلي»، وإخراجه عن الخدمة مع مطاردة السفن «الإسرائيلية» أو المتجهة للكيان، ثم أوحى نجاحهم الصاروخي الأخير بمقدرة فائقة، تخطت كل طبقات الدفاع الجوي الأمريكي و»الإسرائيلي»، وسكن صاروخهم الفرط صوتي «فلسطين ـ 2» على عتبة مطار «بن غوريون»، ودفع ملايين «الإسرائيليين» إلى الهروب للملاجئ فزعا ورعبا، ودفع شركات الطيران العالمية لمقاطعة الذهاب إلى أكبر مطارات الكيان لأيام طويلة، وتفاقم خسائر الكيان وارد جدا مع التجدد المتوقع لضربات «الحوثي»، خصوصا أن حكومة نتنياهو تربط مصيرها باستمرار الحرب على «غزة»، والسعي لاحتلالها بالكامل بعد انتهاء زيارة ترامب، ما قد يعني بالمقابل إعادة تنظيم صفوف المقاومة الفلسطينية، ورفع وتيرة حرب العصابات ضد جيش الاحتلال، مع استمرار المساندة «الحوثية» الفريدة عربيا، وتزايد حرج أنظمة الاستسلام و»اتفاقات إبراهام»، وذبول أدوار الوساطة مع كيان الاحتلال، واتساع رقعة الحروب في المنطقة، وبالذات مع رفض السياسة المصرية التام لتهجير الفلسطينيين إلى سيناء، والتوتر المتزايد بين القاهرة وتل أبيب، وبين القاهرة وواشنطن ذاتها، وزيادة معدلات التوجه المصري الرسمي إلى بكين وموسكو، وما من فرصة للجم هذه التطورات الملموسة، إلا بمتغيرات من نوع اختفاء نتنياهو سياسيا، وهذا هو تحدي ترامب الأكبر .
كاتب مصري

القدس العربي