عصر البراغماتية الدموية: حين تتهاوى الأخلاق ويعلو منطق الغرائز:

بقلم : عماد خالد رحمة _ برلين.

 

يعيش العالم اليوم في زمنٍ يُمكن أن نطلق عليه عصر الذرائعية الدموية، حيث تحكمه قاعدة واحدة: الغاية تبرّر الوسيلة. لم يعد هنالك مكان للفروسية القديمة، ولا لما كان يُعرف بالمناقبية أو الكوابح الأخلاقية التي كانت تُضفي على الفعل الإنساني بعدًا من النبل والمسؤولية. نحن أمام مرحلة تاريخية يتسيّد فيها منطق القوة العارية، وتُختزل القيم إلى شعارات استهلاكية، وتُستبدل المروءة السياسية بحسابات النفوذ والمصالح، في مشهدٍ يذكّرنا بما سجّله المؤرخ ابن إياس في بدائع الزهور من وصفٍ لعصور الفتن والانهيارات، حيث لا يبقى من الاعتبارات سوى غرائز العنف والبقاء بأي ثمن.
الذرائعية، أو البراغماتية، وُلدت في الفلسفة الأمريكية مع مفكرين مثل ويليام جيمس وجون ديوي، حيث كانت تُعرّف بأنها فلسفة العملية الناجعة والفعل الملموس الذي يثمر نتائج. غير أن هذه الرؤية، وقد تحوّلت إلى أداة سياسية، أفرغت من بعدها الفلسفي لتتحول إلى ذريعة للهيمنة: من ليس معنا فهو ضدنا. هكذا أصبحت الذرائعية غطاءً أيديولوجيًا لتبرير الاستبداد، والغزو، والصراعات الدموية، حيث لا صوت يعلو فوق صوت المصلحة العارية.
الفيلسوف ماكس فيبر نبّه منذ مطلع القرن العشرين إلى هذا التحول، حين ميّز بين “أخلاق القناعة” و”أخلاق المسؤولية”. فإذا كانت الأولى تُحيل إلى الالتزام بالمبادئ والقيم مهما كانت النتائج، فإن الثانية تسوّغ للفعل وفق نتائجه وحدها. وفي عالم اليوم، نرى كيف ابتلعت “أخلاق المسؤولية” كل شيء، فتحوّل السياسي إلى لاعبٍ ماكر يزن كل فعل بميزان الجدوى، حتى لو كان ذلك على حساب ملايين الضحايا.
لقد أدرك نيتشه قبلاً أن انهيار المنظومات الأخلاقية التقليدية سيقود إلى “إرادة القوة” كبديل شامل، لكن ما لم يكن في حسبانه أن هذه الإرادة ستتجسّد في صورة أنظمة وأيديولوجيات كاملة ترفع شعار البقاء بأي ثمن، حتى لو كان الثمن جسد الابن في سبيل نجاة الأب، أو سحق الضعفاء كي يطفو الأقوياء فوق طوفان العنف.
ولعلّ ألبير كامو كان من أعمق من وصف هذه الحالة حين تحدث عن “عبثية العالم” الذي لا يراعي احتياجاتنا ورغباتنا، مؤكّدًا أن مواجهة هذا العبث لا تكون بالاستسلام لإرادة القوة العمياء، بل بالتمسك بالتمرّد الأخلاقي، ولو بدا خاسرًا. أما حنة أرندت فقد رأت في كتابها أيخمان في القدس أن أخطر ما يمكن أن يميز هذا العصر ليس وحشية المجرمين الكبار فحسب، بل “تفاهة الشر” الذي يتحوّل فيه القتل والتدمير إلى إجراءات بيروقراطية عادية، لا تختلف في منطقها عن تنظيم الميزانية أو شحن البضائع.
إنّ أخطر ما يميّز عصر الذرائعية الراهن هو إقصاء الضمير الإنساني من معادلة الفعل. فالإنسان لم يعد يُعامل كغاية كما أراد كانط، بل كوسيلة قابلة للاستبدال. القيم الإنسانية صارت أوراقًا للتفاوض في صفقات كبرى، والدماء البشرية مجرد “أضرار جانبية”. إننا أمام انحطاط أخلاقي شمولي حيث تذوب الحدود بين الإنسان والشيء، وتُمحى الفوارق بين العدالة والقوة، بين الشرعية والعنف.
لكن رغم هذا المشهد القاتم، لا تزال أصوات الفلسفة والفكر تنبّه إلى خطورة هذا المنزلق. فالمشروع النقدي عند يورغن هابرماس يؤكد أن العقل التواصلي يمكن أن يشكّل بديلاً عن هذا الجنون الأداتي، وأن الحوار والمجال العمومي هما السبيل لإنقاذ إنسانية الإنسان من أن تُسحق تحت عجلات البراغماتية الوحشية.
إنّ معركتنا اليوم ليست فقط مع أنظمة سياسية أو مصالح دولية، بل هي مع فلسفة براغماتية مبتذلة تحوّلت إلى عقيدة عالمية تشرعن الدم والدمار باسم الواقعية. ولعلّ مواجهة هذه البراغماتية لا تكون إلا بالعودة إلى فلسفة إنسانية تُعيد الاعتبار للكرامة، والضمير، والحرية. فالحداثة التي أرادت أن تحرّر الإنسان من قيود الأسطورة، لا يجوز أن تنتهي إلى تحويله إلى رقمٍ في معادلة الصراع.
إننا، باختصار، أمام زمن تتساقط فيه الأقنعة: حيث تنكشف ذرائعية العالم على حقيقتها، ويُدعى الفكر إلى أن يقف، لا ليبرّر، بل ليُدين، ويطرح سؤال البديل: أيّ إنسان نريد أن نكون في زمنٍ جعل من البقاء بلا أخلاق، شعارًا للعصر؟