شكلت زيارة الرئيس أبو مازن لسورية فاتحة جديدة للعلاقات الفلسطينية السورية، وإشارة إلى توجهات تلك العلاقات بين البلدين في العهد السوري الجديد بعد سقوط نظام عائلة الأسد. وفيما يسهل تخيل اضطراب تلك العلاقة في المرحلة السابقة بسبب مواقف الأسد السيئة من منظمة التحرير وعدائه للوطنية الفلسطينية، فإنه يصعب أيضاً توقع مستقبل العلاقة بشكل جلي مع النظام الجديد أيضاً، الذي يحمل بذور توجهات إسلامية سيكون عصياً عليه التخلص منها بسهولة.
وفي كل الأحوال فإن سورية الجديدة تحمل معها علاقة جديدة مع فلسطين، علاقة تستند إلى الموقف الفلسطيني الكلاسيكي الذي رسخته أدبيات منظمة التحرير بعدم التدخل بالشؤون الداخلية للدول العربية، إذ إن الأساس في ذلك أن الموقف الفلسطيني يعتمد على موقف تلك الدول من فلسطين وليس العكس.
وعليه فإن زيارة الرئيس أبو مازن لدمشق هي إشارة إلى التوجهات الجديدة التي تعيد التركيز على العلاقة المتينة بين البلدين بما في ذلك من بناء لقواعد مختلفة للعلاقة التي كانت سائدة أيام الأسد.
لقد برع الأسد في العمل على تفتيت الجهد الفلسطيني وتشتيت العمل الفلسطيني المشترك من خلال دعم أي فصيل أو قوة تناهض القيادة الفلسطينية وتناكفها، بجانب حرمان «فتح» من حرية العمل التنظيمي وملاحقة قادتها في مراحل كثيرة.
وربما يصعب تخيل أي فتحاوي حقيقي يكن أي احترام أو تقدير لنظام الأسد إلا أولئك الذي كانت تجرفهم عواطف لا علاقة لها بفلسطين وبلاغة زائدة.
الأسد الذي قتل ولاحق قيادة فتح والذي عمل على شق صفوف فتح وآوى وسلّح كل من أراد أن يغتال الفكرة الفتحاوية هو نفسه الأسد الذي أسند حماس لحظة انقلابها على السلطة في غزة وما نتج عنه من انقسام ندفع فاتورته حتى الآن، تتذكرون أن خطاب «هزيمة» الشعب الفلسطيني (بمعنى انتهاء حماس من الانقلاب وحسم الحكم بالدم في غزة) لخالد مشعل تم من دمشق وبرعاية من نظام الأسد.
الأسد الذي لم يطلق رصاصة في معركة لفلسطين يشبه محللي وضيوف القنوات العربية من الجنرالات الذين لم يخوضوا حرباً، ويحللون معارك يقولون «ضارية» في غزة من أجل قضاء أكبر قدر ممكن من الوقت خلف الشاشة.
لذلك فإن العلاقة مع النظام الجديد تعني التخلص من كل هذه المرحلة المؤلمة فلسطينياً، والنظر للأمام بما يكفل البحث عن المصلحة الفلسطينية القائمة في الأساس على تسخير الطاقات العربية من أجل تعزيز النضال المشترك لحماية المصالح العربية.
لن يكون هناك شيء أكثر سوءاً من فترة الأسد بالنسبة لنا كفلسطينيين.
الامتيازات التي يتحصل عليها اللاجئون الفلسطينيون في سورية لم تكن منة من الأسد ونظامه بل كانت سابقة لوجوده، وكانت تقليداً سورياً قديماً، وهي من تلك الأشياء التي يجب السعي للحفاظ عليها في ظل النظام الجديد وعدم المساس بها، إذ إن الأساس أن يعيش الفلسطيني بكرامة حتى يعود لبلاده.
والفلسطينيون الذين عانوا كثيراً خلال الحروب للإطاحة بالنظام السابق وتم تدمير جزء من مخيماتهم خاصة الكارثة التي حلت بمخيم اليرموك، هؤلاء الفلسطينيون تم توريطهم ببعض القضايا الداخلية السورية بسبب جهل بعض التنظيمات الفلسطينية الإسلامية واليسارية والقومية ورغبتها في أي تكون جزءاً من أجندات دول خارجية أو تدافع عن نظام فرداني تسلطي.
عموماً هذه مرحلة انتهت، وصار نظام الأسد القمعي جزءاً من الماضي المؤلم الذي ستزول آثاره مع الزمن.
ما أريد أن أقوله في هذه النقطة إن واحداً من أهم التوجهات التي يجب أن تصوغ العلاقة الفلسطينية السورية في مرحلتها الجديدة يجب أن يبدأ من التأكيد على الحفاظ على مكتسبات وحقوق الفلسطينيين في سورية وعدم المساس بها تحت أي حجة.
إن هذه الحقوق جزء من تقاليد العلاقة بين الشعبين الفلسطيني والسوري رغم مرارة واقع حكم الأسد القمعي بحق النضال الفلسطيني وتنظيمات الحركة الوطنية الفلسطينية.
يرتبط بذلك تنظيم أوضاع المخيمات بما يسمح بمواصلة العمل التنظيمي في داخلها لصالح تعزيز الوعي الجماهيري بالحقوق الفلسطينية وعدم تذويب الهوية الوطنية.
إن وجود المخيمات الفلسطينية في دول الجوار ليس وضعاً اجتماعياً ولا اقتصادياً بل هو تعبير سياسي ووطني عن الأزمة الحقيقية وعن جوهر الصراع الحقيقي مع المشروع الكولونيالي الإحلالي بأن حق العودة شيء لا يمكن المساس به.
وعليه فإن جزءا من العلاقة يجب أن ينتبه لترتيب المخيمات والحفاظ عليها.
فيما يظل الموضوع الثالث لا يقل أهمية عن الموضوعين السابقين وهو يتعلق بإسرائيل ومحاولاتها التدخل في الشأن السوري من خلال قضيتين، تتمثل الأولى بتعزيز الصراع الطائفي والمذهبي والعرقي في المجتمع السوري فيما تتمثل الثانية بدفع سورية الجديدة إلى «التطبيع» وإقامة علاقة «طيبة» وغير متوترة مع تل أبيب.
فيما يتعلق بالقضية الأولى فإن إسرائيل حاولت تقديم نفسها المدافع عن حقوق الطائفة الدرزية في الجنوب السوري في ظل التوترات بين الدولة الجديدة وبين الطائفة بل تم الحديث عن حماية عسكرية وعن زيارات لمشايخ الطائفة للمقامات الدرزية.
كما أن محاولات شبيهة تمت الإشارة إليها بخصوص الطائفة العلوية بعد ما حدث في الساحل وإشارات أخرى إلى علاقة محتملة مع الأكراد في منطقة الجزيرة.
بالطبع الكثير من كل هذا الحديث هو من صنيعة الخطاب السياسي الإسرائيلي الموجه لتعزيز الأزمة في المجتمع السوري وتعميق الخلافات الداخلية.
القضية الثانية محاولة تل أبيب استخدام نفوذ الرئيس ترامب لدى دول الجوار المؤثرة بالقرار السوري الجديد خاصة أنقرة من أجل خلق تفاهمات مع الدولة السورية الجديدة التي تواجه مشاكل كثيرة في طريق فرض سيطرتها وإعادة الاعتبار لسورية التي انتهك حرمتها الأسد طوال العقود الماضية.
ثمة مهام كثيرة ومعقدة في انتظار الرئيس السوري في طريق إعادة بناء الدولة ومؤسساتها وإعادة سورية للسوريين وللعرب، من هنا فإن زيارة الرئيس عباس لدمشق ضمن فهم مستقبل الوجود الفلسطيني وعدم انخراط دمشق في أي توجه ينتقص من دورها القومي التاريخي تبدو مهمة وإشارة لمستقبل آخر من التنسيق والتعاون والعمل المشترك.
