عقلية ترامب التفاوضية.. مساومة بالتجزئة

حميد قرمان

أبدت العديد من الأطراف الدولية تخوفا من عودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، فانتشرت استنتاجات وتحليلات سياسية تتنبأ بحرب يبدو أن العالم يقف على أعتابها، بناء على نهج فترته الرئاسية الأولى، التي كانت تتأرجح بين عدم النضج السياسي وأساليب التصادم الاستعلائي، التي استخدمها لفرض رؤاه على المجتمع الدولي.

وعلى خلاف التوقعات التي رُوِّج لها من قبل خصوم ترامب، سواء من الحزب الديمقراطي الأميركي أو دول كانت تفضل فوز كامالا هاريس، خوفا من عودة ترامب بسياسات وإستراتيجيات أعلن عنها قبل دخوله المكتب البيضاوي، كان أبرزها إطفاء نيران الحروب المشتعلة في مناطق متعددة من العالم.

سرعان ما اتضحت الصورة التي أراد ترامب تكريسها لنفسه أمام الجمهور الأميركي أولا، ثم المجتمع الدولي ثانيا، حيث نجح هو وإدارته في تبريد بعض الملفات الساخنة عبر مسارات سياسية تتسم بالغلظة، والتلويح بالتهديد العسكري كخيار تفاوضي على الطاولة.

بالعودة قليلا إلى الوراء، استفادت إدارة ترامب من تداعيات الصراع في المنطقة، الذي ما زال مستمرا بأبعاده العسكرية والسياسية، وما ترتب عليه من نتائج أخرجت دولا وأنظمة وحركاتٍ من دائرته.

استفادة تجاوزت نهج إدارة الرئيس جو بايدن، التي وقعت تحت تأثير أطراف الصراع الرئيسية، وهي إيران وأدواتها، وإسرائيل وحكومتها. أدركت إدارة ترامب أنها في حاجة إلى خلق مقاربات تفاوضية تعتمد على المساومة عبر تجزئة التفاوض مع أذرع المحور الإيراني وفصلها عن النظام الإيراني نفسه، مع عزل بنيامين نتنياهو وحكومته عن بعض مسارات التفاوض.

اعتمدت الإدارة على إبرام صفقات واتفاقات بشكل منفصل، تارة مع حزب الله عن طريق رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري، وتارة مع الميليشيات العراقية عبر حكومة محمد شياع السوداني، وأحيانا مع الحوثيين من خلال وساطة العُمانيين، الذين يقودون مسار تفاوض آخر بين إدارة ترامب والنظام الإيراني.

كما شملت التفاهمات الأخيرة صفقة مع حركة حماس، التي أفرجت عن الرهينة مزدوج الجنسية عيدان ألكسندر، كإشارة احتفالية لقدوم ترامب إلى منطقة الشرق الأوسط، مع الأخذ بعين الاعتبار تحييد حكومة بنيامين نتنياهو عن أغلب هذه الصفقات.

فلسفة عقلية ترامب التفاوضية، التي ترجمتها إدارته عبر مبعوثيه بفرز وتقسيم المحاور والتكتلات الإقليمية والدولية، بهدف إبرام صفقات أحادية دون دفع أثمان سياسية أو اقتصادية مرتفعة قد تؤثر على شعبيته في الداخل الأميركي، وتسهم في المقابل في تعزيز صورته على الساحة الدولية.

فنجاح العقلية الترامبية التفاوضية في إبرام تفاهمات واتفاقيات لم يقتصر على الشرق الأوسط فقط، بل تعدى لعقد صفقات تجارية واقتصادية مع دول العالم، وعلى رأسها الصين، المنافس الاقتصادي الأول للولايات المتحدة، إضافة إلى دول أوروبا وشرق آسيا وكندا والمكسيك.

والأهم من ذلك الصفقة التي تُطبَخ على نار هادئة لإنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا، حيث سيجلس رئيسا البلدين خلال أيام في العاصمة التركية أنقرة، في أول لقاء يجمع بينهما منذ بدء النزاع، بعلم ترامب ورضاه.

لا يمكن فصل نهج ترامب عن مسيرته وتاريخه في عالم العقارات، حيث لخَّص أسلوبه التفاوضي في كتابه الشهير “فن الصفقة”، ولعل من أهم المبادئ التي جسّدها في مساره السياسي مبدأ “استخدم تأثيرك”، حيث يقول ترامب “عليك إقناع الطرف الآخر بأن من مصلحته إتمام الصفقة.”

مع بداية فترته الرئاسية الثانية، بات الجميع وسطاء وأطرافا في صفقات هدفها الأساسي تهدئة الأوضاع وخفض التصعيد، الذي ساد طيلة شهور سبقت عودة ترامب الساعي لرسم صورة درامية لنفسه كرجل السلام الأول في العالم، مما يجعل عنوان كتاب الراحل صائب عريقات يختزل واقع العالم ومشاهده اليوم “الحياة مفاوضات”.