عماد مصباح مخيمر.. العقل الفلسطيني المقاوم بالعلم والمعرفة

تقرير: بن معمر الحاج عيسى

في مدينة رفح الواقعة أقصى جنوب قطاع غزة، وفي قلب بيئة محفوفة بالتحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وُلد الدكتور عماد مصباح مخيمر عام 1967، ليبدأ مسيرة علمية ومهنية تُجسد واحدة من أبرز صور التحدي الثقافي والعلمي في وجه الاحتلال والحصار والحرمان. فمنذ سنوات شبابه الأولى، كان الوعي السياسي حاضراً في تكوينه، يغذّيه واقع الاحتلال الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية، وشكل استشهاد شقيقه موسى الطالب في جامعة بير زيت في 13/4/1987، تمفصلًا مركزيًا في بناء وجدانه الوطني وشخصيته الثقافية والفكرية، إضافة إلى تشكيله دافعاً له للبحث العميق في فهم طبيعة الصراع القائم وآليات التغيير. حصل الدكتور عماد على شهادة البكالوريوس في إدارة وريادة – بتركيز على الاقتصاد من جامعة القدس المفتوحة بغزة، حيث أسس هذا التكوين قاعدة معرفية رصينة حول بنية الاقتصاد الفلسطيني الهش تحت الاحتلال، ثم واصل دراسته لينال الماجستير في العلوم السياسية من جامعة الأزهر بغزة، وهي محطة علمية مكنته من الغوص أكثر في بُنية النظام السياسي الفلسطيني، وتشريحه في ظل الانقسام وأثره في إحداث نكوص وتراجع في زخم القضية الفلسطينية على المستويات كافة، الإقليمية منها والدولية. وصولاً إلى نيله درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة تونس المنار، التي أضافت إلى رصيده الأكاديمي رؤية أكثر اتساعاً حول أزمة السلطة السياسية في العالم العربي والمقاربة الباحثة غياب العقلانية عن المزاوجة ما بين الموروث العربي بشقيه الثقافي والديني والفكر الحداثي الأوروبي، وذلك في إطار إظهار مقاربات الصراع السلطوي ومباشرة وممارسة وتداول السلطة السياسية في العالم العربي، وتدعيم ذلك كله بالنماذج الانتقالية المتعلقة بالسلطة السياسية في معظم العالم العربي.

لم يكن الدكتور عماد مجرد أكاديمي يعكف على الكتابة النظرية بعيداً عن الواقع، بل انخرط في الحياة الفكرية الفلسطينية بنشاطٍ ملحوظ، عبر كتابات تحليلية ودراسات سياسية نُشرت في صحف ومواقع إلكترونية عربية وفلسطينية مثل موقع “الحوار المتمدن”، حيث قدّم قراءات معمقة في مواضيع عدة، أبرزها تحولات النظام السياسي الفلسطيني، المأزق الديمقراطي في ظل الاحتلال والانقسام، وتداعيات السياسات الإسرائيلية على الهوية الفلسطينية. تمتاز كتاباته بالمنهجية الصارمة واللغة العلمية الدقيقة، مع قدرة فريدة على الربط بين الإطار النظري والواقع الميداني، ما جعله صوتاً معرفياً يحظى بالتقدير في الأوساط الأكاديمية والإعلامية على السواء. كما يُعد من الأصوات التي نادت مبكرًا بضرورة إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني على أسس ديمقراطية ومؤسسية تضمن تمثيل كل القوى، بعيداً عن نهج المحاصصة والانقسام.

لكن المسار الأكاديمي والبحثي لهذا المثقف لم يكن محصّناً من أهوال العدوان، ففي 24 أكتوبر 2023، تعرّض منزل عائلة مخيمر في حي تل السلطان برفح لقصف عنيف من الطيران الحربي الإسرائيلي، في مجزرة راح ضحيتها 20 فردًا من العائلة، من بينهم شقيقه المحامي حمادة مصباح محمد مخيمر (63 عامًا) وعائلته وغيرهم من الأقارب النازحين من غزة إلى مدينة رفح. كان المشهد مأساوياً بكل المقاييس، حيث تناثرت أشلاء الضحايا تحت أنقاض منزل آمن، يُفترض أن يكون ملاذًا لا هدفًا عسكريًا. وقد مثل هذا الاستهداف جزءًا من سياسة منهجية مارستها آلة الحرب الإسرائيلية ضد العائلات الفلسطينية، لضرب النسيج المجتمعي والضغط على الحاضنة الشعبية للمقاومة. ورغم حجم الألم والفقد، لم تُسجّل للدكتور عماد مواقف انكسار أو صمت، بل واصل حضوره الفكري كأنه يقاوم بالمعرفة في وجه فاشية النار والحديد، مؤمناً أن المعركة ليست فقط بالسلاح، بل بالكلمة والعقل والذاكرة.
وعلى الرغم من كل الفواجع الكارثية التي ألمت به ومساحة الوجع التي أصبحت مرادفًا لفظيًا لكينونته الوجودية، إلا أنه واصل مسيرته الأكاديمية بالالتحاق بكلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس – جامعة قرطاج لنيل درجة الدكتوراه في القانون الدولي.
يرى كثيرون من زملائه وتلامذته أن ما يميّز الدكتور مخيمر هو قدرته على الجمع بين صرامة الباحث وحرارة الفلسطيني المجروح. فهو ليس أكاديميًا نخبويًا منغلقًا على ذاته، بل منغمس في قضايا شعبه، يحللها بلغة علمية دون أن يفقد التزامه الأخلاقي والوطني. كما يُعرف عنه أنه لا يكتب لإرضاء أحد، بل يضع الحقيقة فوق كل اعتبار، حتى لو خالف بها رأيًا سائدًا أو موقفًا رسميًا. وقد أسهمت مداخلاته الإعلامية وكتاباته في صياغة وعي سياسي ناقد لدى طيف واسع من المثقفين الشباب، لا سيما في الجامعات الفلسطينية التي باتت تُعدّ فضاءات للنقاش الحر حول المستقبل السياسي المجهول.

وإلى جانب نشاطه البحثي والذي كان أبرزه نشر كتاب بعنوان: أزمة السلطة السياسية – دراسة في الفكر السياسي العربي وذلك من خلال مركز دراسات الوحدة العربية – لبنان في العام 2020 والكتاب مستل من أطروحة الدكتوراه الموسومة بعنوان: أزمة السلطة السياسية في العالم العربي، وكذلك تم نشر دراسة محكمة تحمل نفس العنوان في مجلة المستقبل العربي الصادرة عن المركز ذاته. ساهم الدكتور عماد في تطوير ثقافة البحث العلمي في قطاع غزة، رغم شحّ الإمكانات والحصار المتواصل منذ أكثر من 18 عامًا، حيث شارك في عدة مؤتمرات علمية ، مؤمناً بأن تحرير فلسطين يبدأ بتحرير العقل من التبعية والجمود. ولم يتردد يومًا في التصدي للنظريات الجاهزة التي تبرر الفشل السياسي الفلسطيني، بل دعا دوماً إلى نقد الذات وإعادة تقييم التجربة الوطنية بكل جرأة ومسؤولية. لقد أصبح الدكتور مخيمر نموذجًا للمثقف العضوي الذي لا ينفصل عن بيئته، ولا يهادن في الحق، بل يمضي في دربه كمن يشعل شمعة في ليل الاحتلال الطويل.
اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، يُعد صوت عماد مصباح مخيمر ضرورة وطنية، في وقتٍ تتكالب فيه التحديات على القضية الفلسطينية داخلياً وخارجياً. إن مشروعه الفكري، الذي يجمع بين الجذرية والواقعية، بين النقد والبناء، هو ما تحتاجه فلسطين كي تخرج من نفق الجمود والضياع، نحو أفق التحرر والديمقراطية والسيادة. فالرجل لم يكتب فقط ليوثّق، بل ليحرض على التغيير، ويؤسس لمعرفة فلسطينية تُقاوم النسيان والتطبيع والاستسلام. وفي ظل المشهد القاتم، تظل كلمات عماد مخيمر بوصلة للعقل الفلسطيني الباحث عن الحرية، لا بالسلاح وحده، بل بفعل الكلمة والوعي أيضاً.