عندما انهارت أعمدة نظام الأسد

غازي دحمان

سقط أحد أكبر الطغاة في التاريخ السوري والعربي عموما، سهر السوريون، في سورية والعالم، طوال تلك الليلة مذهولين، لم يتصوّروا مثل هذا السيناريو حتى في أحلامهم، كان هناك تخوّف كبير أن تشهد دمشق أحداثا معقدة وقتالاً عنيفاً، فدمشق المتخمة بالأجهزة والمليشيات ستكون ورقة مهمّة للتفاوض من أجل ترتيبات مستقبلية لبقايا نظام الأسد.

في آخر يوم من أيام نظام الأسد، تكدّست القوات المنسحبة من كل الجبهات في دمشق، بالمنطق العسكري، كان متوقّعاً تشكيل أطواق دفاعية حول العاصمة، أو على الأقل حول المربعات الأمنية وقصور بشّار الأسد، في ظل مفاوضات مكثّفة كان تجريها روسيا وإيران مع تركيا في الدوحة، كان الواضح منها رغبتهم في إنقاذ المعادلة في سورية وإنقاذ الأسد ومؤيديه من مصير مجهول. ومن المفترض أن هناك خطوط تواصل مباشرة مع النظام في دمشق، غير أن بشّار استعجل الفرار لإنقاذ نفسه، وحلّت أجهزة الأمن وقطعات الجيش هياكلها وسرّحت عناصرها وتخفّى قادتها.

كيف حصل ذلك؟ كيف سقطت إمبراطورية آل الأسد؟، وكيف انهارت دمشق التي جرى العبث بتوازناتها الديمغرافية وإعادة تشكيل اقتصادها ومجتمعها وحيوات ناسها، وكيف سمحت مراكز القوى الإقليمية والدولية التي تورّطت مع نظام الأسد في صناعة هذا الواقع السوري المنحرف، واستثمرت أموالا طائلة لإدامة الأوضاع التي أنشأتها بالقوة؟

كان الأسد على بعد خطوةٍ من إعادة تأهيله، أصبح هذا الأمر الشغل الشاغل لدول أوروبية كثيرة، وحتى دول إقليمية كثيرة كانت قد بدأت ترويج أن لا بدائل للأسد في سورية لا اليوم ولا في السنوات المقبلة. وبالتالي، يجب طي صفحة الثورة ضده إلى الأبد، وقبوله إقليمياً ودولياًً، بناء على أمر واقع جرى فرضه بالقوّة، وبالتالي، الحلّ الأفضل واقعيا هو التوصل إلى صيغ وترتيبات جديدة لسورية، بناء على هذه المعطيات، التي لا يبدو أنها ممكنة التغيير.

ثمّة إطار تفسيري ومفاتيح يمكن استخدامها لفهم اللعبة الكبرى التي وجد الأسد نفسه داخلها، والتي يبدو أن نتيجتها كانت ستكون نهايته، لعبة كان قد قبلها سنوات وتماهى معها، لكن اللاعبين الأساسيين طوّروا اللعبة، وربما أرادوا إجراء نقلة حاسمة تشكّل معادلة جديدة لا يكون الأسد أحد أطرافها.

الحرب التي اشتعلت في المنطقة هي السياق الذي جرت خلاله إطاحة الأسد، هذه الحرب التي أطاحت مراكز إيران في المنطقة، وغيرت المعادلة بشكل حاسم ضدها. لكن، ولفترة طويلة، بدا أن الأسد استطاع إنتاج استجابات تؤمن له إعادة تموضع جديد في ظل إحتضان عربي له وحالة من الرضى من إسرائيل على أدائه في أثناء الحرب، وتحييد نفسه بدرجة كبيرة. ورغم تهديد نتنياهو الأسد من اللعب في النار في سياق خطاب نصره على حزب الله، إلا أنه كان تهديداً من نوع لزوم ما لا يلزم، على اعتبار أن الأسد أصلا بذل أقصى ما يستطيع من جهد. وحسب تحليلات وتقديرات إسرائيلية، لا يمكن أن تحصل إسرائيل على وضع أفضل من ذلك في المرحلة الحالية.

بيد أنه في الأسابيع الأخيرة، كان هناك ضغط إيراني لم يخف نفسه، ويبدو أن إيران التي كانت تعيش على وقع إنهيار أوراق قوتها في المنطقة أخذت تتصرّف بنزق من خارج نسق سياساتها النمطية القائمة على حسابات معقدة وصبر إستراتيجي. وواضح أن هذه التحوّلات الإيرانية وضعت الأسد أمام خياراتٍ رأى فيها مصيرا أسود يتشكل أمام عينيه، وزاد من سوء الوضع بالنسبة له استجابة بوتين له عندما ذهب يطالبه بالدعم للوقوف في وجه قوات المعارضة، فقد كشفت صحف موسكو أن بوتين كان محبطاً منه إلى حد بعيد، وربما أفهمه أن دعم بقائه في السلطة بات يستنزف قدرات روسيا المستنزفة أصلا نتيجة حرب أوكرانيا.

في ظل هذه الخريطة المعقدة من التحولات والمواقف وضعف قاعدته الشعبية، حتى وسط بيئته، ومعرفته بحجم الضعف الذي وصل إليه جيشه، اتّخذ الأسد خيار الهرب وطي صفحة الحكم والتوريث، وكانت أولوية النجاة بنفسه المحرّك الأساسي له. لذا بدا تنفيذه مخطّطه هذا مطابقا لكلاسيكيات هروب زعماء المافيات عبر التسلّل هربا في جنح الليل، وترك النظام ينهار من دون تأمين لبيئته، وكأنه يقول لروسيا وإيران تولوا أنتم هذا الأمر، ربما لأنه لم يرغب في الاشتراك بترتيبات إنهاء دوره، وربما لخوفه من أجهزة الأمن التي ربما كانت ستعمد إلى خيارات أخرى، من نوع احتجازه والتفاوض عليه مع المعارضة والدول الفاعلة في الملفّ السوري. وربما لإنقاذ أنفسهم وتقديمه كبش فداء، ولهذا قرّر إجراء عملية هرب استباقية وتركهم لمصيرهم، حتى لا يتحوّل إلى ورقة بيد من كان يعتبرهم أوراقاً يحرقها متى يشاء.

ما يعني السوريين في هذه المرحلة أكثر من التفكير ببشّار الأسد، هو إدارتهم هذه المرحلة والعبور بالبلد إلى برّ الأمان وطي صفحة الحرب المريرة التي استنزفت طاقاتهم وحيواتهم؛ فالتحدّيات المطروحة كبيرة جدا، وتحتاج إلى عقول وإرادات توازي حجم ما هو مطروح عليهم.

شاهد أيضاً