بنى بعض المراقبين تقديراتهم على عودة دور اليسار للتأثير بقوة في المسار السياسي داخل إسرائيل، على مظاهرة حاشدة خرجت الأحد الماضي نظمها اتحاد نقابات العمال (الهيستدروت) تضامنا من أهالي الأسرى والمحتجزين لدى حركة حماس، وتجاهل هؤلاء أن هذه أول مرة يعلو فيها صوت اليسار بهذه الدرجة من الارتفاع منذ اندلاع الحرب على قطاع غزة، وكانت ولا تزال الغلبة لليمين المتطرف للحكم في مفاصل الشارع والسياسة والحرب، وهو ما يستمد منه رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو جزءا كبيرا من قوته السياسية، والأعلى ضجيجا وصخبا على الساحة الإسرائيلية.
حرّكت مظاهرة الهيستدروت الكثير من المياه للوقوف على شكل العلاقة بين اليسار واليمين، والتي ظهرت تجلياتها السلبية في السنوات الماضية، إذ مالت تماما ناحية الثاني، بالصورة التي يعتمد فيها تشكيل الحكومات على أحزابه المحسوبة على اليمين بألوانه المتباينة، والذي ازداد تغولا وحصد مكاسب متعددة، ونجح في توظيف حرب غزة في شرعنة الكثير من سياسات الاستيطان في الضفة الغربية المحتلة، وتحول إلى شبكة أمان لنتنياهو من أجل مواصلة الحرب على القطاع، ووضع خطة تعيد احتلاله، أو على الأقل إدارته بالطريقة التي تتواءم مع مصالح رئيس الحكومة الحالية.
بدت مظاهرة الهيستدروت الحاشدة كطيف عمالي مـرّ علينا واختفى سريعا، لأن محكمة العمل قضت بعدم قانونية التظاهر ورفضت التسييس، وهي رسالة ردع ليبقى اليسار كامنا، ولا يحاول الخروج على الجمهور علنا مرة أخرى، لأنه سيُصدم عمليا بمظاهرات أشد قسوة من قبل المتطرفين، وتنقل معركة الحرب من الكنيست والحكومة وبعض وسائل الإعلام إلى الشارع، وغالبا ستحسم لصالح المتشددين الذين يملكون غطاء سياسيا متماسكا من وزيري الأمن القومي والمالية، ناهيك عن استجابة كبيرة من جانب رئيس الحكومة لدعم التيار الذي يمثلانه.
من راهنوا على خروج الهيستدروت من قوقعته، تذكروا دوره في المظاهرات التي خرجت قبل اندلاع حرب غزة اعتراضا على تغيير النظام القضائي، وتجاهلوا أن لا أحد تقريبا يتحدث عن هذه القضية في خضم ما يروج له اليمين من ضرورة توجيه الدفة نحو الشعب الفلسطيني، لتقويض حلمه في دولة مستقلة، وتعزيز السيطرة اليهودية الكاملة على المسجد الأقصى، وهو ما لا نسمع عنه اعتراضا واضحا من أحزاب اليسار والجهات المحسوبة عليه.
لم يعد دور الهيستدروت قاصرا على الدفاع عن حقوق العمال، وانخرط في السياسة بشكل حوّله سابقا إلى قوة ثمينة لليسار من دون أن يتخلى عن المبادئ التوراتية الرئيسية التي تنطلق منها إسرائيل، وتكفي الإشارة إلى أن غالبية الحروب العربية – الإسرائيلية اندلعت في عهد حكومات ينتمي قادتها لليسار، بينما عقدت اتفاقيات السلام في عهد حكومات يمينية ومتشددة.
والدلالة التي تكشفها هذه المسألة تكمن في سهولة الدخول في حرب، وصعوبة الوصول إلى السلام بين إسرائيل وأي من الدول العربية، لأن دعم الحرب يظل ثابتا في الذاكرة الجمعية لليهود، بينما التسوية السياسية بحاجة إلى إرادة وقوة وقدرة على المواجهة، لأن الأخيرة تحمل في جوهرها ما يعرف بالتنازلات من جانب إسرائيل.
يمثل الهيستدروت مصالح نحو 800 ألف عامل، وهي نسبة قليلة مقارنة بالجبهات التي يمثلها المتطرفون بمشاربهم المتنوعة التي أصبحت تقدر بالملايين، ومع اتساع رقعة الحركة أمام اليمين انكمش اتحاد العمال، وركز جل همه على مهمته الرئيسية المتعلقة بدعم المؤسسات الصناعية والمالية والاقتصادية التي قامت عليها إسرائيل أصلا عام 1948، فالاتحاد تأسس قبل نحو عقدين من هذا التاريخ، ويقال دوما إنه أقدم من الدولة نفسها، ولعب دورا حيويا في تلبية احتياجات العمال في زمن هجرة اليهود إلى فلسطين في الفترة الأولى، كما أن ديفيد بن غوريون هو زعيم الهيستدروت في سنوات التأسيس، أصبح رئيسا للوزراء بعد ذلك.
كشفت الذكريات التي اجتّرها البعض مع مظاهرة اتحاد العمال عن نوع من التفاؤل وأنه سوف يلعب دورا في الدفع نحو التعجيل بعقد صفقة الأسرى، وحث الحكومة على تليين موقفها، لكن ما حدث أن المظاهرة انفضّت سريعا ومن غير المتوقع تكرارها بعد حكم محكمة العمل، ونتنياهو ضاعف شروطه بما يوحي أنه لا يعبأ بسماع الهيستدروت أو غيره من اللوبيات، ومصمم على استكمال مشواره في التصعيد.
أكدت المظاهرة ذاتها وجود انقسام داخل أهالي الأسرى وداعميهم حيال التوقيع على الصفقة، فهناك جبهة تعارضها، وتعتقد أن القبول بها في هذه الأجواء من قبيل الاستسلام لحماس، ما يعني أن اليمين نجح في اختراق أهالي الأسرى، ولم تعد العملية منحصرة في تحريرهم بأي ثمن سياسي، وهو الذي يمكن رئيس الحكومة من توسيع نطاق صلفه في المفاوضات، وعدم الاكتراث باليسار أو اتحاد العمال، فقد حلّت حكومة الحرب بعد خروج بيني غانتس منها، ولا يزال نتنياهو متماسكا.
رسخت الحرب وتداعياتها مؤشرات خفوت دور اليسار قبلها، وعززت قوة اليمين داخل إسرائيل، الذي يريد قادته تأكيد أنه استوعب دروس الماضي بشأن الذهاب إلى عمليات سياسية للحفاظ على أمن الدولة، حيث اكتشف أن هذه المهمة تتحقق بالقوة وليس بالركون إلى السلام، ما يعني أن من يراهنون على تسويات رضائية إقليمية ودولية لن يحالفهم الحظ، فكل التصورات التي طرحها نتنياهو والتصرفات التي قام بها تؤيد خيار القوة، فضلا عما ينوي عليه من توجهات لتصفية القضية الفلسطينية.
يمكن أن تتغير هذه المعادلة في حالتين، الأولى: وجود ضغوط داخلية تجبره على الانحناء، وهي غير موجودة حتى الآن، بل على العكس ثمة قوة تساعده على المضي قدما في طريقه، والثانية: إرادة قوية من قبل الولايات المتحدة والمجتمع الدولي للعودة إلى خيار السلام وحل الدولتين، وهو ما يسعى نتنياهو إلى تحطيمه مسبقا من خلال الحلقات العسكرية الجهنمية التي تتم في قطاع غزة والضفة الغربية، وخلق ذرائع لأزمة مع مصر بشأن ممر فيلادلفيا، والاستغراق في تفاصيلها، في حين تمضي قوات الاحتلال في مخططها لتفريغ القضية الفلسطينية من مضامينها.
ولذلك فالتئام مظاهرة لليسار، ولو كانت حاشدة، لا يعني التصدي لليمين أو الدخول في مواجهة ممتدة معه، فقد نجح نتنياهو في إيجاد مساحة مشتركة بينهما على الأهداف الكبرى للحرب، ويندرج التباين الحاصل حول صفقة الأسرى ضمن أدوات اللعبة التي يتقنها، إذ يعي أن استطلاعات الرأي تميل لصالحه، وكل خصومه السياسيين من اليسار أو اليمين لا يوجد من يهدده بالشكل الذي يجبره على التراجع وتقديم تنازلات لحماس، لأنه بات على يقين أن الضغط العسكري هو الطريق الوحيد لتحرير ما تبقى من الأسرى والمحتجزين، وأن الحركة خسرت قوتها الضاغطة.