بقلم: عيسى بن معمر
موقع السياسي – 2025
في زمنٍ يتقافز فيه الشعر على أرصفة المعاني المبتذلة، ويهوي في هوّة البلاغة المكرورة، ويكاد يذبل على ضفاف المجاز الميت، ينهض عيسى قارف من قلب الفراغ، لا ليكتب قصيدةً، بل ليكسر الزمن، ويعيد ترتيبه، وليفكّك اللغة من الداخل كما يُفكّك ناسكٌ جسده في طقس تنسّك أزلي. شاعرٌ لا يُشبه غيره، لأنه لا يكتب كما يكتب الشعراء، بل يكتب كما يتنفّس كائنٌ جُبِل من الحيرة والدهشة والاحتراق، وسكن في المنطقة الرمادية بين الله والقصيدة. لا يمكن الحديث عن عيسى قارف دون التوقف طويلاً عند دلالة وجوده في المشهد الشعري الجزائري والعربي. إنه ليس شاعرًا فحسب، بل مُزلزلٌ جمالي، وندبة في وجه اللغة، ومُشرّع مجازيّ يكتب من مهبّ الغيب وبرد الشك ولهب العشق. شاعرٌ كتب اسمه بماء النار، لا ليحترق وحده، بل ليشعل معنا الحرف حتى تفيض القصيدة من رمادها، وتعلو شاهقة في سماء لا تحدّها قواعد العروض، ولا تُطَوّقها مدارس النثر، ولا تُروضها قوالب الكتابة.
في عمله الكوني “سِفر المشيئة”، لا نقرأ ديوانًا بالمعنى المدرسي، بل نلجُ كتابًا سماويًا، سفرًا شعريًا، برديّة نُقشت في غياب اللغة، ولُفّت برائحة الخمر ودم البدايات. النصّ لا يبدأ، لأنه لم ينتهِ بعد، ولا يُقسم إلى قصائد، لأن القصيدة عند قارف هي الكلّ، هي الوقت، هي الخلق، هي الأبدية. لا عناوين، لا نهايات، لا حدود، فقط تيار لغوي يفيض كأنفاس نبيّ في لحظة احتضار كونية، يُلقي كلماته كما تُلقى الحجارة في مياه الزمن، فتتشظى اللغة وتتكاثر الحروف ككائنات بدائية تبحث عن شكلها الأول.
منذ بيته الأول، يعلن قارف أن لا شيء سيبقى كما هو، أن الأرض لم تُخلق من طين، بل من “دم دافق لمحيض المجرة”، وأن أولى جرّات الخمر انسكبت من “سماوات كن”، لا من نبيذ الأرض، وأن الوقت لم يُخلق في رحِم الساعات، بل اندلق كقَدرٍ يسيل من فم الغيب. هذه ليست استعارات، بل نصوص كونية، لحظة انبجاس الأصل، صدمة المعنى حين يلتقي بالمحظور، وعودة الكتابة إلى دورها الأوّل: الخلق. لغة قارف تنقض الأسطورة لتصنع أسطورتها، وتخلع الجلد عن الدلالات لتستولد دلالاتٍ أخرى، أبعد، أعمق، أشهى وأفزع.
الشعر عنده ليس ترفًا جماليًا، بل فعلٌ أنطولوجيّ، مقاومة للانقراض الوجداني، ومحاولة للقبض على الحقيقة عبر زئبق المفردة. النصّ لا يُراد له أن يُفهم، بل أن يُعاش، أن يُرتّل، أن يُختبر، أن يُنزَف. كل سطر فيه له ذيولُ رؤيا، وكل صورة فيه نُطفة لأسطورة:
> “وفي البدء كان النساء بلا روح / لولا انتباه الحباحب للحاء والباء…”
“وكان الكمال بلا لون / والخلق أعدل ما ينبغي / ولكن شكلاً تملّق معناه / فابتدعا كذبة اللون…”
إنه لا يروي قصة الخلق، بل يختلق خلقًا بديلًا، يكتب نشوء العالم من منظور الحواس، من طعنة الجمال، من نَفَس العاشقة حين تعبر الحبر، من ارتباك الزمان حين تصفعه الخطوة الأولى لامرأة تسير خارج التصنيف. النساء في ديوانه لا يُحببن كما في القصائد، بل يُؤلَّهن، يُحتفى بهن بوصفهن أصل الزمن، وميزان المعنى، وميزان الصوت، والظل، والدهشة. يقول:
> “أهذه امرأة أم الميقات؟!”
“يفلت من بين أصابعك الوقت / إلى الناس / فيفتعلون الميقات…”
هذه المرأة الكونية ليست كائنًا غراميًا، بل كوكب، مجاز زمني، جاذبية لاهوتية، مِقياسٌ للمعرفة والجهل والحضور والفقد. وقبل أن تكون أنثى هي ضوء، ثم هي زمن، ثم هي فوضى تهز يقين الذكر، وتُربكه حتى لا يعرف كيف يسمي نفسه خارج قواميسها. في “سِفر المشيئة”، لا يسعك أن تميز بين “الغياب” و”البكاء”، لأن الغياب هو أصل البكاء، ولا بين “الجوع” و”العمى”، لأن العمى هو من جرّ الجوع. إننا لا نقرأ نصًّا، بل نُلقى في داخله، نتهجّى الوجود كما يُتهجّى طفلٌ أعمى وجه أمه في الظلام.
الأسلوب عند قارف هو نصٌ قائم بذاته. لا توجد جملة واحدة تشبه الأخرى، ولا فكرة تنتهي حيث بدأت، ولا إيقاع منتظم يستريح إليه القارئ. هناك دائمًا ارتجاجٌ، قفزة، هوة، بُعدٌ خفي. وهذا ليس ناتجًا عن فوضى، بل عن نظام داخلي شديد الانضباط، كأن اللغة خُلقت في معمله لا لتُعجب، بل لتُربك. هناك جمل تشبه الصلاة، وأخرى تشبه الارتعاش، وأخرى تشبه السؤال حين لا يجد من يجيبه في السطر التالي. كأن الشاعر كتبها في حال تَخَلٍّ مطلق، حال من التوهان الجميل، وتركها تشيخ على الصفحة وتتكاثر كأنها كائنات حية لا تعرف الموات.
إن “سِفر المشيئة” يتجاوز القصيدة ليصبح قصيدة-كون، قصيدة-ما بعد اللغة، قصيدة-طقس، قصيدة-هذيان فلكيّ يسعى إلى خلق الشعر من جديد، لا كنص، بل كعقيدة معرفية. والمجاز في هذا العمل ليس زينة، بل بنية وجود، كل بيت يحتوي مجازًا يُعادِل نظرية، كل مفردة تؤسس لعالم. حين يقول:
> “أصل الفناء اللغة / أصل القصاص: انتفاء الترادف / أصل السياسة: نجمة في بئر قديم / أصل الغناء: رياح الجنائز…”
فهو لا يلعب، بل يُؤسّس، يُعيد تعميد المفاهيم، يُعري اللغة من مساحيقها ويصقلها بنصل الحرف.
أما عيسى قارف، فهو لا يكتب من موضع الشاعر التقليدي، بل من موضع الكائن الذي عاش ألف حياة في سطرٍ واحد، ومات ألف مرةٍ بين فاصلتين، وأعلن القيامة في بيتٍ لا يُقرأ، بل يُرتّل. شاعر يكتب بلسان البرق، ويمشي فوق الماء، ويسكر من كأس لم تمسها شفاه بشرية، شاعر يكتب من جوف النار، ويُغني من قلب الريح، ويتوضأ بالغيب، ليكتب نصّه كما يُكتب المصير.
هو شاعر رفع راية المغامرة، لا ليُجرب، بل ليُشعل الغابة، شاهقًا كشجرة برية، ترفض الانحناء… وتُزهر بالغضب. شاعر لا يضع نقطة النهاية، لأنه لا يعترف بالنهاية. شاعر لا يكتب ليُفهَم، بل ليُؤمن به.
“سِفر المشيئة” ليس ديوانًا، بل حدث لغوي، رعشة فكرية، هزة جمالية، وإنجيل شعريٌّ جديد كُتب في الخفاء، وسُكب على الورق ليوقظنا من سبات اللغة. عيسى قارف هو الفراغ حين يتكلم، والدهشة حين تجد صوتها، والقصيدة حين تخلع جلدها لتتجلى نارًا، ماءً، أنثى، ومطرًا لا ينضب.