غدا يتوقف هدير الطائرات التي ظلت تغزو السماء وتسرق النوم من عيون الأطفال والأمهات، واحد وعشرون شهراً من حرب اجتاحت بيوت غزة وأحلامها، حتى يخرج الرجال دون ان يعلموا إن كانت لهم بيوت سيعودون إليها مع المساء. حين يُعلن ان الحرب انتهت، سيهلل الناس بالفرح، لكنهم سيخرجون بخطوات مثقلة بالريبة والألم، يتلفتون حولهم، وكأنهم يبحثون عن الدليل الأخير على أنهم ما زالوا أحياء، ستسير أم محمد وسط الردم، تتعثر بثياب ممزقة وركام يعلو كل شيء، وتردد بعيون غارقة في الدمع: عشرون شهراً، ولا أعرف إن كان ابني حياً أم “ميتاً”، وكلما سألت قالوا انتظري، لم نحص الأسماء بعد.
في الازقة الضيقة، ستجلس سيدة اخرى في ظل جدار نصف قائم، تحتضن ما بقي لها، ابنتها الصغيرة، وتهمس: ظننا النزوح أياماً… مرت شهور كثيرة، ولم نعد نملك بيتا ولا بابا، وتمسح دموع ابنتها وتحاول ان تبتسم، لكنها تعرف ان الوجع لا يزول بابتسامة، ولا يختفي بانتهاء الحرب.
غدا تنتهي الحرب، فتنهمر الدموع بدل الرصاص، وتدور الامهات بين المشافي يبحثن عن زوج او ابن، ويخرج الرجال بحثا عن أب او أخ، ويضربون بأيديهم في الركام، قبل ان تبتلع الجرافات كل شيء، هناك ستتكشف فصول الجريمة كلها، جثامين مجهولة، ورفات بلا أسماء، وأسماء بلا أثر في الأرض، ووسط هذا الدمار تسكن حكايات لا يرويها احد، طفل في ركن مدرسة عاش فيها دهرا، يضم لعبته الى صدره ويتمتم: اشتاق سريري… أمي تقول سنرجع قريبا، لكني لا أصدق أحدا، اريد ان أنام ليلة واحدة دون خوف.
في المستشفيات التي صارت شواهد على عجز العالم وتواطؤه، الطبيب بين الأسرة المزدحمة بالجراح والأنين، يقول بصوته المتعب: كل صباح افتح عيني وانا خائف، صار الموت عاديا، لكن رؤية الاطفال يموتون دون ان نقدر على اسعافهم كسر قلوبنا الى الابد، وآخر يقول : كنا نخرج تحت القصف نبحث عن الجرحى، وفي كل مرة كنت أرى اطفالا يرتجفون ولا يجدون من يمسك أيديهم، وأسوأ لحظة حين يسألني طفل إن كنت قد رأيت أمه، ولا املك له جوابا.
هذه الحرب لم تترك قلباً الا واحرقته، اوقفت عجلة الحياة، لا مصانع ولا متاجر ولا حتى أسواق، صار الخبز امنية بعيدة المنال، والماء ترفا لا يناله الا القليل، في كل زاوية ستلتقي وجوه شاحبة تبحث عن اثر حياة، ذكرى تنقذ الروح، وام تجلس على كرسي صدئ، تهمس لنفسها بأسماء أولاد رحلوا واحدا تلو الآخر، او طفل يسال عن قلب يضمه اذا حلّ الظلام.
وغداً أيضا، سيعود المقاتلون بعد اطول حرب عرفتها فلسطين. وجوه شاحبة، وعيون متعبة، وأكتاف مثقلة بحمل البنادق وذكرى من رحلوا، لن يخرجوا ملوحين بشارة نصر فقط، بل بخطوات يعلوها اعتراف صامت بان كل حرب تسرق شيئا من ارواح من خاضوها، سيعودون الى امهات انتظرن بقلوب معلقة بين الخوف والفخر، الى ابناء شبوا وهم لا يعرفون سوى صورة بطل غائب تزين شاشة المحمول، الى بيوت لم يبق منها الا الرماد، وحوارٍ لا تشبه طفولتهم ولا رائحة بيوتهم، لكن في عيونهم شرارة يقين بان غزة اوسع من كل حصار، واقوى من كل موت.
غدا تنتهي الحرب، لكنها ستترك قلوباً معلقة بين اليقين واليأس، قد لا يكون الغد يوم انتصار، ولا هزيمة، بل يوم اعتراف مرّ بأن هذه الأرض دفعت ثمناً تجاوز كل قدرة على الاحتمال.
في صباح يوم الصمت الاول، سيبكون كثيرا، وتتشابك ايديهم في رسالة للعالم، باننا هنا، لسنا ارقاما، بل ارواح نزفت حتى جفت، لكن رغم كل شيء نحب الحياة ما استطعنا اليها سبيلا.
غدا تنتهي الحرب… لكن وجع غزة لن ينتهي، قلبها شاهد على الالم، ووجهها يحكي قصة شعب تكسّر الف مرة، ولم ينكسر.
