السياسي – بين جدران رمادية لا تعرف الرحمة، خرج مئات الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية يحملون على أجسادهم حكايات العذاب التي عاشوها طوال شهور الاعتقال. لم تكن حُريتهم عادية، بل مشوبة بالوجع، بعدما تحولت أجسادُهم إلى خرائط من الكدمات، ووجوههم إلى شواهدَ على قسوة لا تُوصف.
نسيم الراضي، شاب من بيت لاهيا، لم يكن يصدّق أنه سيغادر سجن نفحة في صحراء النقب حيّاً. قبيل الإفراج عنه بيوم واحد، انهال عليه حراس السجن ضرباً وكأنهم يودعونه بعنفٍ متعمد، تاركين أثرهم على جسده كما يترك السجّان توقيعه على الضحية. لم تكن تلك آخر لحظاته من الألم، بل بداية صدمةٍ جديدة حين عاد إلى غزة ليكتشف أن الحرب ابتلعت أُسرته بالكامل، ولم تُبقِ له سوى الذكرى وصورة باهتة لطفلته الصغيرة التي كان يحلم باحتضانها يوم ميلادها الثالث.
يقول أقرباؤه إن بصره لا يزال مضطرباً منذ أن تلقى ضربة على عينه أثناء التعذيب. ولم يكن ذلك المرض الوحيد، فالرجل الذي أمضى نحو عامين في الأسر خرج مصاباً بآلام مزمنة ومشكلات جلدية حادة، بعدما عاش في زنازين مكتظة تفتقر إلى الهواء والدواء والطعام.
نظام قمعي
كانت تجربة الراضي نموذجا لنظام قمعٍ متكاملٍ مارسه حراس السجون الإسرائيلية بحق المعتقلين الفلسطينيين. فقد روى عددٌ من المفرج عنهم أن الضرب لم يكن عقوبة، بل ممارسة يومية ممنهجة. يدخل الجنود الزنازين وهم يصرخون في الأسرى، يُطلقون الكلاب المدربة عليهم، ويرشّون الغاز المسيل للدموع في الممرات الضيقة.
يؤكد بعض المعتقلين أن غرف الاحتجاز كانت تضم أربعة عشر شخصاً في مساحة لا تتسع إلا لخمسة، وأن رائحة العفن والعرق والدم امتزجت في الهواء الخانق. كثيرون أُصيبوا بأمراض جلدية وفطرية بسبب انعدام النظافة، بينما كانت الأدوية شحيحة أو منتهية الصلاحية.
لم يكن السجن مجرد حرمان من الحرية، بل هو إلغاء ممنهج لإنسانية الأسرى. حُرموا من الزيارات، ومن التواصل مع العالم الخارجي، ومن العلاج الطبي. بعضهم أمضى شهوراً كاملة في زنازين انفرادية تحت الأرض، لا يسمع فيها سوى وقع خطوات الحراس وصوت صرير الأَقفال.
طعام ملوث
محمد أبو شمالة، شاب في الثانية والعشرين من عمره، خرج من السجن بوجهٍ شاحب وجسدٍ نحيل. يؤكد أنه دخل السجن بوزن تجاوز السبعين كيلوغراما، وخرج بأقل من النصف. كان يأكل ما يُقدَّم له على مضض، لأن الطعام غالباً ما كان فاسداً أو ملوثا.
في شهاداتٍ متطابقة، تحدث الأسرى عن بيئةٍ خانقة مليئة بالحشرات، وعن مراتب متسخة لا تُغسل، وعن جروحٍ تعفّنت لأنهم اضطروا إلى استخدام مواد التنظيف كمطهرات. يروي أحمد الحناوي أنهم نُقلوا إلى غرفة تُعرف بينهم باسم “غرفة الموسيقى”، حيث تُشغَّل أصواتٌ صاخبة ليلا ونهارا كوسيلةٍ للتعذيب النفسي تُفقدهم النوم والعقل معا.
ويروي حسن يونس أن بعض الجنود كانوا يرشّون الماء البارد على أجساد المعتقلين في ذروة الشتاء، أو يرشّون مسحوق الفلفل الحار على وجوههم أثناء التحقيق.
تلك الأساليب، كما يقول حسن، لم تكن تصرفات فردية، بل جزءًا من تعليماتٍ أمنية تهدف إلى كسر إرادة السجين الفلسطيني.
حسن صبري، في منتصف الأربعينات من عمره، أمضى قرابة عامين في سجن “سدي تيمان”. يقول إنه شهد مآس ٍ تفوق الوصف، إذ كان يرى زملاءه يُضربون حتى الموت ثم تُسحب جثثهم بلا اكتراث. لم يكن أحد يجرؤ على الصراخ طلبا للمساعدة، لأن الاستغاثة نفسها كانت تهمة تُقابَل بمزيدٍ من الضرب.
فؤاد زهير، أحد المعتقلين الذين أُفرج عنهم، قال إن الحراس كثيرا ما تركوا الجرحى ينزفون حتى الموت، ثم يعودون بعد دقائق ليحملوا الجثة ملفوفة بكيس ٍ أسود. كانت الزنازين تغصّ بالأنين، ويضيف : “لا يميّز المعتقلون بين صوت الألم وصوت الريح وهي تصطدم بالأبواب الحديدية الثقيلة”.
وروى آخرون أنهم أُجبروا على الجلوس على أرضيات معدنية باردة لأيام متواصلة، وأن بعضهم أُصيب بتقرحاتٍ خطيرة نتيجة ذلك. كانت وسائل العقاب متنوعة: ضربٌ بالهراوات، وركلاتٌ متكررة، وصعقٌ بالكهرباء، وحرمان من الطعام والنوم.
شهادات طبية
في مستشفى ناصر جنوب قطاع غزة، وصل عشرات الأسرى المحررين وهم في حالة صحية حرجة. يقول مدير العلاقات العامة إياد قديح إن معظمهم كانت على أجسادهم آثار ضربٍ وكدماتٍ وكسورٍ واضحة، فيما أظهرت فحوص طبية وجود التهاباتٍ شديدة بسبب تقييد الأيدي لفترات طويلة.
ويضيف أن بعضهم نُقل مباشرة إلى غرف الطوارئ للعلاج من سوء التغذية والجفاف، فيما بدت على آخرين علامات الانهيار العصبي بعد التعرض الطويل للعزل والتعذيب.
الأطباء وصفوا ما رأوه بأنه «إرث من الألم»، مشيرين إلى أن كثيراً من المعتقلين لم يتلقوا وجباتٍ كافية لأسابيع، وأن بعضهم لم يشرب سوى الماء الملوث.
تؤكد منظمات حقوقية مثل الهيئة الفلسطينية لشؤون الأسرى والمحررين ومؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان أن الانتهاكات بحق الأسرى الفلسطينيين تصاعدت بصورة غير مسبوقة منذ تشرين الأول / أكتوبر 2023، حين مُنحت الحكومة الإسرائيلية سلطاتٍ واسعة لجهاز الأمن والسجون تحت ذريعة “الظروف الطارئة”. ووفقا للّجنة الإسرائيلية لمناهضة التعذيب، فقد جرى احتجاز آلاف الفلسطينيين دون محاكمة أو تُهم واضحة.
سياسة مقصودة
المنظمات الحقوقية الإسرائيلية مثل منظمة “بتسليم” واللجنة العامة لمناهضة التعذيب في إسرائيل باتت تتحدث علنا عن نمط ٍ منظم ٍ من التعذيب يتجاوز حدود “الانتهاكات الفردية”. وتشير تقاريرها إلى أن ما يحدث داخل المعتقلات الإسرائيلية يعكس سياسة انتقامٍ ممنهجة تغذيها شخصيات في الحكومة المتطرفة التي ترى في المعتقل الفلسطيني «عدواً» لا يستحق الحقوق الأساسية.
تقول الحقوقية الإسرائيلية تال شتاينر، المديرة التنفيذية للجنة العامة لمناهضة التعذيب في إسرائيل، إن حجم التعذيب والمعاملة القاسية ارتفع إلى مستويات “مروّعة” منذ اندلاع الحرب على غزة، وإن بعض الإجراءات التي اتخذتها وزارة الأمن القومي – ومن بينها تشديد العقوبات داخل السجون – تهدف صراحة إلى “كسر الروح” لدى المعتقلين.
في المقابل، تصرّ السلطات الإسرائيلية على أن ظروف احتجاز الأسرى “تتفق مع القانون الدولي”، رافضة الرد على تفاصيل الانتهاكات. غير أن شهادات المفرج عنهم، وما تحمله أجسادهم من أدلة دامغة، تكشف ما هو أبعد من البيانات الرسمية.
وجع الحرية
حين خرج نسيم الراضي من السجن، لم يكن جسده وحده من أنهكه الأسر، بل روحه أيضا. كان يحلم بأن يجد أسرته تنتظره على باب البيت، لكنه لم يجد إلا الركام. وقف طويلًا أمام الأنقاض صامتا، بينما تتدلى على كتفه حقيبته الصغيرة التي خرج بها من الزنزانة. لم يكن يحمل فيها سوى ملابس باهتة ورسالةٍ لم يستطع تسليمها لابنته الراحلة.
يقول أحد أقربائه : “الحرية كانت حلمه الأكبر، لكنه حين نالها وجدها أقسى من السجن نفسه”.
بهذه الكلمات يمكن تلخيص مأساة الأسرى المحررين من السجون الإسرائيلية، الذين خرجوا من ظلمة المعتقل إلى ظلمةٍ أخرى في وطنٍ محاصرٍ وجائع. فقد نجا كثيرون من الموت خلف القضبان، لكنهم عادوا ليواجهوا موتاً من نوعٍ آخر، حيث لا دواء، ولا مأوى، ولا من يضمّد جراحهم المفتوحة حتى الآن.