الرئيس دونالد ترمب يمارس السياسة الخارجية عبر الميكروفون وتحت أضواء التلفزيون، وهو يضع أمام إيران خياراً محدداً وصعباً، الاتفاق النووي والإقليمي أو الحرب. لكن الرئيس الأميركي يحتاج إلى “استراتيجية أكثر تعقيداً من مهاجمة إيران وأذرعها”، كما تقول نائبة مدير مؤسسة “بروكينغز” سوزان مالوني. أما المرشد الأعلى علي خامنئي الذي يكمل خط الإمام الخميني القائل إن العداء لأميركا من أسس الثورة، فإنه يحتاج إلى استراتيجية بسيطة في وضع معقد. وليس أصعب على ترمب وخامنئي من الذهاب إلى حرب لا أحد يعرف إلى أين تقود، سوى الوصول في الحوار إلى إنهاء المشروع النووي والمشروع الصاروخي وأذرع الحرس الثوري في المنطقة. وترمب لا ينسى أن سياسة الخروج من الاتفاق النووي و”الضغط الأقصى” في الولاية الأولى فشلت كما فشلت سياسة أوباما وبايدن في الرهان على “اعتدال” إيراني، بالتالي فإن كل المقاربات الأميركية فشلت. وخامنئي يدير النظام على أساس أنه حركة ثورية عصية على التكيف مع أميركا. وليس على واشنطن سوى “تغيير النظام” والرهان على “الثورة الثالثة” من الداخل حيث الفقر والغضب، بحسب رأي تقية وإيريك أدلمان، ذلك أن اللعبة الجيوسياسية في المنطقة تغيرت منذ عملية “طوفان الأقصى” التي زلزلت إسرائيل على يد “حماس” ثم حرب غزة وحرب “الإسناد” على يد “حزب الله” وبقية ما فعله “محور المقاومة” بقيادة إيران ضمن “وحدة الساحات”.
في البداية أوحى خامنئي أنه فوجئ بالعملية، ومع الوقت ذهب إلى أبعد بالقول إن “عملية طوفان الأقصى استهدفت كيان الاحتلال في الظاهر إلا أن هدفها في الواقع هو اجتثاث أميركا”. لكن ما سمته سوزان مالوني “التوازن الدقيق في اللانظام بين إسرائيل وإيران” انكسر عملياً، فغزة مدمرة ولا مجال لبقاء “حماس” كقوة تحكم القطاع وتستعد لحرب أخرى، ولبنان مدمر و”حزب الله” صار خارج “المقاومة” من الوطن الصغير، ونظام الأسد في سوريا بكل جيشه وأجهزته الأمنية وقياداته وحلفائه في الحشد الشعبي العراقي و”حزب الله” اللبناني والحرس الثوري سقط واختفى في يوم واحد. وإسرائيل تكمل الحرب من طرف واحد في غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا، وما عاد بقوة هو الأحاديث عن ضربة عسكرية أميركية وإسرائيلية للمشروع النووي الإيراني.
وأبسط ما يعنيه كل ذلك هو أن “الحقبة الإيرانية” في المنطقة بدأت بالانحسار، فالفصائل الأيديولوجية المسلحة المستعدة للقتال دفاعاً عن إيران مضروبة أو معطلة، والمفاخرة الإيرانية بحكم “أربع عواصم” عربية هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء إلى جانب غزة، لم تعُد ممكنة حتى في الخيال بعد الخروج من سوريا، ومصير النظام في إيران نفسها صار على المحك، وإن بقي الرئيس السابق أحمدي نجاد يعلن ما يؤمن به كثيرون من جمهور ولاية الفقيه أن “الطريق ممهد أمام حكومة الإمام العالمية”، لا بل إن الجنرال قائد “فيلق القدس” الجنرال إسماعيل قاآني لم يتردد خلال “حرب الإسناد” في القول “إن محور المقاومة بقيادة إيران سيستمر في العمل في لبنان وسوريا والعراق واليمن وفلسطين حتى ظهور الإمام الغائب وتشكيل حكومته”. والسؤال هو، الانحسار إلى أي حد في الحقبة الإيرانية، نحو الغياب الكامل أم نحو ما هو أقل دراماتيكية؟ وما هو المشهد الذي ينتهي إليه الشرق الأوسط بعد إضعاف العامل الإيراني الذي شغل المنطقة والعالم على مدى أكثر من ثلث قرن؟ وماذا عن تصاعد الدور العربي بصرف النظر عن الاندفاع الأميركي والإسرائيلي؟
الانطباع السائد هو أن استراتيجية أميركا متغيرة واستراتيجية إيران ثابتة، والمؤكد هو نوع من تغيير الاستراتيجية أو أقله المقاربة في أميركا، مع إبقاء “الدولة العميقة” على الأساسيات والمصالح الحيوية والاستراتيجية الأميركية. ولا أحد يعرف إلى أي حد يستطيع ترمب تفكيك “الدولة العميقة”. ولا مهرب من نقاش ثبات الاستراتيجية الإيرانية، ففي مرحلة سابقة قال خامنئي إن “العلاقات مع أميركا اليوم ضارة لنا ويجب تجنبها، وحين تصبح مفيدة لأمتنا سأكون أول من يقررها”، لا بل إن مسؤولاً قريباً من المرشد الأعلى أعلن أن “الهدف النهائي من لعبة الشطرنج المعقدة هو الحصول على ضمانات أمنية أميركية” حول مصير النظام، إذ إن ترمب يوحي بأن لا ضمانات أميركية لإيران إلا حين تتخلى عن المشروع النووي والصاروخي والنفوذ الإقليمي والفصائل المسلحة المرتبطة بالحرس الثوري، وهذه لن تكون إيران التي فجر ثورتها وركز أسسها الإمام الخميني. لكن من الصعب على خامنئي رؤية “شرق أوسط إسلامي” بقيادة إيران ضد إرادة الأكثرية العربية والإسلامية، سواء اكتملت صورة شرق أوسط جديد أو لا.
والمحبطون حيال إيران نوعان، واحد راهن على أن تسود الحقبة الإيرانية الشرق الأوسط ورأى بدايات نجاحها قبل الاصطدام بالانحسار، وثانٍ راهن على صورة جميلة عبّر عنها المفكر الإيراني عبدالكريم شروش بالقول “الخطاب الأحمر” لليسار، و”الخطاب الأسود” للطغيان يجب إبدالهما بـ”الخطاب الأخضر” للديمقراطية والتعددية، وهو “سيعلو في إيران”. حلم صار كابوساً، إلى حد أن مير حسين موسوي الخاضع للإقامة الجبرية منذ “الحركة الخضراء” عام 2009 يقول إن “أسوأ أنواع الديكتاتورية هي الديكتاتورية باسم الدين”.
والامتحان لأميركا وإيران على مسافة شهرين، و”لا سلام مع نظام ثوري”، كما كان يقول مترنيخ.
نقلا عن اندبندنت عربية