غزة بين نيران الاحتلال وقيود الداخل: من يدفع الثمن؟

بقلم :م. محمد العايدي

 

في الوقت الذي ظن فيه سكان غزة أن الهدنة الموقعة بين إسرائيل وحماس برعاية أمريكية وقطرية، وبشهادة بعض الدول العربية والإسلامية، قد تكون بداية لانفراجة إنسانية بعد شهور من القصف والدمار، تكشّفت ملامح مرحلة أكثر قتامة. فغزة، التي دفعت ثمناً باهظاً من أرواح أطفالها ونسائها وشيوخها، لم تخرج من دائرة الموت، بل دخلت في فصل جديد من القهر، هذه المرة من الداخل. فبينما كانت الأنظار تتجه نحو إعادة الإعمار وتضميد الجراح، بدأت تظهر مؤشرات على أن حركة حماس، التي تحكم القطاع منذ سنوات، تسعى إلى إعادة فرض سيطرتها الشعبية والسياسية بالقوة، في مشهد يصفه البعض بأنه لا يقل قسوة عن مشاهد التنظيمات المتطرفة.
الدمار الذي خلفته الحرب الأخيرة لم يكن فقط في المباني والبنية التحتية، بل في النفوس والعلاقات الاجتماعية، وفي الثقة التي كانت تربط الناس بمن يحكمهم. ومع توقيع الهدنة، شعر كثيرون أن الحركة لم تعد تملك الغطاء الشعبي الذي كانت تتكئ عليه، خاصة بعد أن بدا واضحًا أن حسابات الحرب لم تكن لصالح المدنيين، بل كانت جزءًا من صراع سياسي إقليمي ودولي، دفع فيه الأبرياء الثمن الأكبر. وفي ظل هذا التراجع الشعبي، بدأت تظهر تقارير عن حملات اعتقال وتصفيات داخلية، استهدفت شخصيات وناشطين يُشتبه في معارضتهم لسياسات الحركة، أو في انتقادهم لأداءها خلال الحرب. هذه الممارسات، التي وُصفت بأنها “قتل داعشي”، أثارت موجة من الغضب والخوف، وفتحت الباب أمام تساؤلات عميقة حول مستقبل الحكم في غزة، وحول ما إذا كانت الحركة تسعى إلى حكم الناس أو إخضاعهم.

الواقع في غزة اليوم هو واقع مزدوج من القهر: قهر الاحتلال الذي لا يتوقف عن استهداف المدنيين، وقهر داخلي يزداد وطأة كلما حاول الناس التعبير عن رأيهم أو المطالبة بحقوقهم. وبين مطرقة القصف وسندان القمع، يقف الغزيون في مفترق طرق، لا يعرفون إلى أين يتجهون، ولا من يحمل عنهم عبء هذه المرحلة. فالمساعدات الإنسانية ما زالت محدودة، والمعابر مغلقة، والوعود الدولية بإعادة الإعمار لم تتجاوز التصريحات، بينما تتفاقم المعاناة اليومية في ظل غياب رؤية سياسية واضحة، أو قيادة موحدة قادرة على انتشال القطاع من هذا المستنقع.

إن ما يحدث اليوم في غزة ليس مجرد أزمة سياسية أو إنسانية، بل هو اختبار أخلاقي لكل من يدّعي دعم القضية الفلسطينية. فالدفاع عن فلسطين لا يكون فقط في مواجهة الاحتلال، بل أيضًا في مواجهة أي شكل من أشكال الاستبداد الداخلي، وفي حماية المدنيين من أن يتحولوا إلى وقود لصراعات لا ناقة لهم فيها ولا جمل. غزة لا تحتاج إلى شعارات، بل إلى عدالة، إلى حرية، إلى صوت يُسمع دون خوف، وإلى حكم يُبنى على احترام الإنسان لا على إخضاعه.

وفي ظل هذا المشهد المعقد، يبقى السؤال الأهم: هل ستُفضي هذه الهدنة إلى حل حقيقي يُنهي معاناة الغزيين، أم أنها مجرد استراحة مؤقتة قبل جولة جديدة من العنف؟ وهل يمكن لحماس أن تعيد بناء ثقة الناس بها، أم أن ممارساتها الأخيرة ستُعمّق الفجوة بينها وبين الشارع؟ الإجابة لا تكمن في البيانات السياسية، بل في نبض الناس، في صرخاتهم، في دموعهم، وفي قدرتهم على قول “كفى” لكل من يعبث بحياتهم، سواء كان من الخارج أو من الداخل.

إن غزة اليوم لا تحتاج إلى مزيد من الخطابات السياسية أو الاصطفافات الأيديولوجية، بل إلى وقفة ضمير حقيقية من كل من يزعم الانتماء إلى القضية الفلسطينية. فالدفاع عن فلسطين لا يكون فقط في مواجهة الاحتلال، بل أيضًا في حماية أهلها من كل من يستهين بكرامتهم أو يعبث بحياتهم. آن الأوان أن يُسمع صوت الناس، أن يُحترم حقهم في الحياة والحرية والعدالة، وأن يُكفّ عن استخدامهم كأدوات في صراعات لا تخدم إلا أصحاب النفوذ. غزة ليست ساحة لتصفية الحسابات، بل بيتٌ للكرامة، وكرامتها تبدأ من احترام الإنسان فيها، لا من إخضاعه. فليكن هذا المقال دعوة لكل من يملك كلمة أو موقف أو قرار، أن يقف إلى جانب الحق، لا إلى جانب من يفرضه بالقوة.