غزة تصرخ جوعا … فهل من مجيب ؟

بقلم : محمد التاج

في مكانٍ ما من هذا العالم، هناك طفل لا يبكي لأن الدمع جف .. بل لأن الجوع قد نحت في روحه حفرة لا يملأها سوى الموت.

في غزة، لا يشبه الجوع ما تعرفونه عن الجوع .. ليس جوعَ حميةٍ أو انتظار وجبة تأخرت .. انه شيء آخر .. جوع له أنياب، ينهش الجسد والعقل معا .. جوع ينبت في قلب الإنسان سؤالا قاتلا : هل الحياة حقا تستحق كل هذا العذاب ؟

هناك، حيث تحاصر السماء قبل الأرض، وحيث تتحول المساعدات إلى شراك موت، يقف الناس في صفوف طويلة .. لا لشراء شيء .. بل لالتقاط فرصة للبقاء .. وربما .. فقط ربما .. ينجو أحدهم برغيف خبز .. وربما لا.

 

في غزة، لا يموت الناس بالقنابل فقط، بل ينتظرون الموت واقفين .. يأتِيهم ببطء، يسير بخفة في أمعائهم الخاوية، يتسلل من بين ضلوعهم النحيلة، يسرق من وجوههم لون الحياة، ثم يسلمهم بصمت إلى التراب.

 

أي قلبٍ يمكن أن يحتمل رؤية أم تمزق ثيابها من العجز، ليس لأن طفلها مريض، بل لأنه جائع ؟

أي ضمير يستطيع النوم، وهناك آباء يحتضنون أبناءهم في لحظات الوداع،فقط لأنهم خرجوا باحثين عن كيس دقيق ولم يعودوا ؟

 

غزة اليوم لا تحتاج إلى كلمات .. غزة لا تريد وعودا ولا تعاطفا ولا بيانات  .. غزة تريد منا أن نغضب .. أن نصرخ .. أن نكسر جدار الصمت السميك .. أن لا نُدين الاحتلال فقط، بل كل من صمت وشارك .. وشارك بالصمت.

 

أن تكون إنسانا يعني أن ترتجف روحك أمام طفلٍ جائع .. أن تكون إنسانا يعني أن ترفض أن تكون الحياة امتيازا .. أن تغضب أن تصرخ في وجه كل من ترك غزة تباد جوعا أمام عيونه وهو يشاهد.

 

وأنا أكتب .. لا أكتب من فراغ .. لقد ذقت الجوع مرا في الأسر، واحتضنني كما تحتضن الأم وليدها .. سبعين يوما من الصراع مع فراغ المعدة، مع صراخ الجسد، مع ذلك الألم الصامت الذي لا تراه العيون .. سبعون يوما كنت فيها شاهدا على كيف يتحول الإنسان إلى ظل، وكيف تصبح لقمة الخبز حلما يشبه المستحيل .. عرفت الجوع وجها لوجه، عرفت كيف يكون الليل أطول من العمر .. لكن حتى ذلك الجوع، كان محاطا بالعزة والكرامة، والإرادة ..

 

أما جوع غزة، فهو ليس مجرد فراغ في المعدة، بل فراغ في هذا العالم .. هو جوع يفرض عنوة، يراقب عن كثب .. وتصفق له وحوش في هيئة البشر .. جوع ينسى في ظل القصور الفارهه، على موائد العشاء الفاخرة،  تحت الأضواء وفي الضوضاء، حيث لا يصل أنين المعدة الخاوية .. ولا يرتجف ضمير من صورة طفلٍ .. يحتضر وهو ينتظر .. في الطابور ليحصل على كسرة خبز او قطرة ماء.

 

من يغرق في رغد العيش .. لن يرى .. ومن عاش في نعيم الأطباق المزخرفة .. لن يشعر .. ومن لم يسمع وجع الجوع يوما .. لن يسمع صرخة غزة ..

لكنّ غزة ترى، وتشعر، وتسمع .. رغم كل هذه الجراح، ورغم كل هذا الوجع .. غزة لم ولن تنكسر .. وستبقى أعظم من جلّاديها .. وفيها حياة اكثر من هذا العالم الميت.

فهل بقي في هذا العالم شيء من إنسان؟