غزة تُباد جوعاً: حين يصبح الطبيب شاهداً وضحية

بقلم: فراس الطيراوي – شيكاغو

غزة اليوم ليست مجرد عنوان في نشرات الأخبار أو صور عابرة على الشاشات، بل مرآة سوداء تعكس أقصى درجات الانحطاط الإنساني، حين يتحول الجوع إلى سلاح حرب. لم يعد الحديث عن نقص الغذاء أو تعطّل المواصلات تفاصيل جانبية، بل صار وصفًا لمأساة ممنهجة تستهدف الحياة ذاتها. ولعلّ شهادة طبيب غزّي قال إنه لم يجد سوى “سندويشة زعتر وكوب شاي بلا سكر” قبل أن يترنح في الطريق إلى مرضاه، تجسّد ببلاغة ما تعجز عنه الأرقام والتقارير: إنسان يتصدّع وهو يحاول إنقاذ آخر.

الطبيب: الضحية والشاهد

المفترض أن يكون الطبيب رمز القوة في مواجهة الموت، لكنه في غزة بات الضحية والشاهد في آن واحد. يعمل على معدة خاوية، يكاد يسقط من الإعياء قبل أن يمد يده إلى مريض. هذه ليست حالة فردية، بل انهيار جماعي لمجتمع يُدفَع إلى حافة الفناء. الطبيب الذي ينقذ الأرواح أصبح هو نفسه بحاجة إلى من ينقذه، وهذه الحقيقة وحدها كافية لفضح حجم الجريمة.

التجويع كسلاح حرب

لم يعد الجوع في غزة أثرًا جانبيًا للحصار، بل سياسة مُعلَنة ومدروسة. أُغلقت المعابر بإحكام، صودرت المساعدات، دُمّرت المزارع، وغدت الأفران بلا طحين ولا وقود. إنها ليست عوارض حرب، بل أدوات إبادة بطيئة: الخبز حلم بعيد، الدواء ترف نادر، والماء النظيف سلعة باهظة. إسرائيل تدرك أن الموت جوعًا لا يقل فتكًا عن القصف، بل هو أشد قسوة لأنه يقتل ببطء ويزرع اليأس في الروح قبل الجسد.

المواصلات المشلولة: موت على الأقدام

انعدام الوقود شلّ حركة المواصلات، وجعل الوصول إلى المستشفيات رحلة محفوفة بالموت. لم يعد الأطباء ولا المرضى يملكون وسيلة سوى السير على الأقدام في شوارع تحولت إلى ممرات موت. الطبيب الذي روى شهادته ليس استثناءً، بل نموذجًا متكررًا: أطباء ومرضى يسقطون من الإنهاك قبل أن يبلغوا المستشفى. في غزة، حتى الطريق إلى العلاج صار معركة ضد الزمن والجوع والحصار.

 

صمت دولي فاضح

هذه المأساة لا تجري في الخفاء، بل على مرأى ومسمع العالم بأسره. ومع ذلك، يواصل المجتمع الدولي صمته الفاضح. القوى الكبرى لا تكتفي بعدم التدخل، بل تواصل تسليح إسرائيل وتغطية جرائمها بالفيتو والبيانات الباردة. هذا الصمت ليس حيادًا، بل شراكة مباشرة في الجريمة. كل دقيقة يتأخر فيها صوت العدالة هي رصاصة جديدة في جسد غزة، وكل تواطؤ سياسي يضيف طبقة جديدة إلى جدار الحصار والجوع.

 

غزة تقاوم رغم الجوع

ورغم كل شيء، تبقى غزة واقفة، ترسل من قلب الجوع والركام رسالة صمود لا لبس فيها. شهادة الطبيب الذي كاد يسقط من الجوع وهو في طريقه لإنقاذ مريض ليست فقط وثيقة إدانة، بل وثيقة مقاومة. إنها تقول للعالم إن غزة لم تُكسر ولن تُباد، وأن إرادة الحياة أقوى من سلاح التجويع مهما طال الزمن.

خاتمة

ما يحدث في غزة ليس صراعًا متكافئًا ولا نزاعًا عابرًا، بل جريمة حرب مكتملة الأركان تُنفَّذ بدم بارد. التجويع المتعمّد، الحصار الخانق، وانهيار أبسط مقومات الحياة ليست سوى أدوات إبادة تستهدف كرامة الإنسان وحقه في البقاء. ومع ذلك، يبقى المشهد الأبلغ أن غزة، بجوعها ودمائها وآلامها، تواصل الوقوف شامخة، حاملة رسالة واحدة إلى العالم: قد تُجوَّع الأجساد، لكن الروح لا تُكسَر، والحرية لا تُباد.

 

ناشط وكاتب عربي فلسطيني – عضو الأمانة العامة للشبكة العربية للثقافة والرأي والإعلام.