تحظى غزة بمكانة فريدة في ذاكرة التاريخ الإنساني، فهي ليست مجرد مدينة على تخوم البحر المتوسط، بل هي عقدة جغرافية وحضارية شكّلت عبر آلاف السنين صلة وصل بين مصر والشام والجزيرة العربية والموانئ الشرقية. ولذلك لم يكن غريباً أن تصبح مطمعاً للغزاة والطامعين منذ عهد الكنعانيين، مروراً بالآشوريين والرومان، ثم الصليبيين والتتار، وصولاً إلى أيامنا هذه.
لقد حفظت لنا المصادر الإسلامية وصفاً دقيقاً لمكانة غزة الروحية والجغرافية. فقد أورد ابن الفقيه الهمذاني في أخبار البلدان أنّها جزء من “الأرض المقدسة” التي بارك الله فيها، مستشهداً بقوله تعالى: {ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم} [المائدة: 21]. كما ورد في الحديث الشريف قول النبي ﷺ: «أبشركم بالعروسين غزة وعسقلان»، مما أضفى على المدينة بُعداً قدسياً يتجاوز حدودها المكانية.
أما الجغرافي الكبير ياقوت الحموي فقد حدّد موقعها بدقة في معجم البلدان، معتبراً إيّاها من أهم مدن الإقليم الثالث، مشيراً إلى قربها من عسقلان وارتباطها بمصر وفلسطين. وهذا التوصيف الجغرافي يشي بأهمية موقعها كعقدة مواصلات، وهو ما جعلها على الدوام محط أنظار الممالك والإمبراطوريات.
من جهة أخرى، يلفت المؤرخ مجير الدين الحنبلي في الأنس الجليل إلى بُعدها الديني والعلمي، مشيراً إلى أنّها مسقط رأس النبي سليمان بن داوود، ومكان مولد الإمام محمد بن إدريس الشافعي، مما يرفع من قيمتها الرمزية كحاضنة للنبوة والعلم. ويشاطره القزويني الرأي بقوله: “وكفاها معجزاً أنها مولد الإمام الشافعي.”
أما من زاوية فلسفية، فقد تناول عدد من المفكرين المعاصرين موقع غزة في سياق صراعها التاريخي. فالفيلسوف إدوارد سعيد رأى أنّ فلسطين عموماً وغزة خصوصاً تمثلان “نقطة التقاء بين السرديات الكبرى للصراع الكوني بين القوة والعدالة.” بينما ذهب ميشيل فوكو إلى أنّ الجغرافيا ليست مجرد فضاء محايد، بل هي موضع إنتاج للسلطة والمقاومة معاً، وهو ما يتجسد اليوم بوضوح في غزة التي تحولت من “هوامش الإمبراطوريات” إلى مركز رمزي عالمي للمقاومة.
إن تاريخ غزة يعلّمنا أن المدن ليست مجرد عمران وأرض، بل هي ذاكرة وصمود ومعنى. فهي مدينة الأنبياء والعلماء، وفي الوقت نفسه مدينة الدم والدمع التي قاومت كل غزاة الأرض. وما زالت غزة، رغم محنها، تجسد مقولة الفيلسوف الألماني هيغل: “التاريخ ليس سوى صراع من أجل الحرية.” وغزة اليوم، بكل ندوبها وصمودها، تعلن أنّها على موعد دائم مع الحرية، مهما طال ليل الطامعين.