تعيش الساحة الفلسطينية في هذه المرحلة أدقّ لحظاتها السياسية والتنظيمية، وسط مشهد إقليمي متشابك ومحاولات متكررة لإعادة صياغة القرار الوطني الفلسطيني تحت عناوين “الوحدة” أو “المصالحة”، لكنها في جوهرها تنطوي أحيانًا على وصاية أو تدخل في الإرادة الفلسطينية الحرة. وفي خضم هذا الواقع، تأتي حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح لتؤكد مجددًا ثوابتها: لا تبعية، لا وصاية، ولا مساس باستقلالية القرار الوطني الفلسطيني.
من المهم أن نوضح بجلاء أن فتح ليست السلطة، والسلطة ليست فتح. فالحركة التي أطلقت الثورة وبنت الكيانية الفلسطينية، لم تختزل نفسها في مؤسسات السلطة ولا تخضع لقراراتها الإدارية. فتح هي الإطار الوطني الأوسع، وهي الحامية للقرار الفلسطيني المستقل، وهي التي لا تسمح بأن يتحول المشروع الوطني إلى إدارةٍ محليةٍ بلا سيادة ولا كرامة.
وفي ظل ما يجري من اجتماعات للفصائل الفلسطينية في القاهرة أو غيرها، تبرز مواقف فتح الرافضة للمشاركة في أي مسار لا يقوم على الشراكة الوطنية الحقيقية. هذا الرفض ليس موقفًا انعزاليًا كما يظن البعض، بل هو تعبير عن موقف مبدئي ينبع من الإصرار على استقلالية القرار الوطني ورفض أي إملاءات تمس كرامة الحركة أو تنتقص من دورها التاريخي كقائدة للنضال الفلسطيني. فتح تقول بوضوح: لن تكون طرفًا في أي صيغة وصاية على الشعب الفلسطيني أو بديل عن منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا.
لكن التحدي الأكبر أمام الحركة اليوم ليس فقط في الموقف السياسي، بل في إعادة ترتيب البيت الداخلي واستعادة علاقتها الحيوية مع الجماهير. فالمطلوب هو استنهاض التعبئة والتنظيم من القاعدة إلى القمة، وإطلاق عملية تجديد ذاتي تضمن عودة الحركة إلى الميدان والشارع والضمير الشعبي. ففتح التي قادت الشعب الفلسطيني نحو الهوية والنهوض الوطني، قادرة على استعادة ثقة الجماهير حين تكون قريبة منهم، تتحدث بلغتهم وتخدمهم بصدق لا بشعارات.
وفي هذا السياق، فإن كافه مفوضيات الحركه وفي مقدمتها التعبئة والتنظيم أمام مسؤولية تاريخية:
توحيد الخطاب الفتحاوي الداخلي، وضبط التناقضات الإعلامية، وإعادة بناء العلاقة بين القيادة والقاعدة التنظيمية، وتفعيل الأطر الحركية لتصبح منابر حقيقية للمبادرة والوعي والعمل الجماهيري. فالحركة لا تُستعاد بالشعارات، بل بالفعل المنظم والميداني الذي يلامس هموم الناس اليومية ويعيد الثقة بالمشروع الوطني.
أما الكادر الفتحاوي، فهو المفصل الحي في جسد الحركة. عليه أن يكون قدوة في السلوك والموقف والانتماء، وأن يحمل فكر فتح كمشروع تحرري وطني جامع لا كهوية فصائلية ضيقة. الكادر الذي يعي دوره هو الذي يصنع الفرق في الميدان، وينشر الوعي الوطني المقاوم، ويحارب ثقافة الإحباط والانقسام، ويجعل من كل موقع مسؤولية وطنية لا امتيازًا شخصيًا.
إن ما تعيشه الساحة الفلسطينية اليوم لا يمسّ حركة فتح وحدها، بل المنظومة الوطنية بأكملها. فإصلاح الوضع لا يكون بتغيير أسماء أو مؤسسات، بل بإعادة الاعتبار للمنهج الوطني الذي أسسته فتح: منهج القرار المستقل، والالتزام بالثوابت، والإيمان بوحدة الشعب الفلسطيني رغم التحديات.
إننا اليوم أمام مفترق تاريخي حقيقي:
إما أن تستعيد فتح دورها القيادي عبر التجديد الذاتي والانفتاح على الجماهير، وإما أن تترك الساحة لمن يريدون مصادرة القرار الوطني الفلسطيني. ولكن التاريخ يشهد أن هذه الحركة، التي أطلقت الرصاصة الأولى وأعلنت الهوية الفلسطينية الحرة، لا تعرف الانكفاء، بل النهوض في كل منعطف.
فتح اليوم مدعوة إلى وقفة مسؤولة تعيد لها مكانتها الطبيعية في وجدان الشعب، ودورها الريادي في قيادة المشروع الوطني حتى تحقيق الحرية والاستقلال، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس







