فرادة لحظة الحداثة: بين العقلنة الكلية ومأزق الانزياح التاريخي:

بقلم : عماد خالد رحمة _ برلين.

إنّ فرادةَ لحظة الحداثة لا تكمن في مجرد كونها انبثاقاً عارضاً في مجرى التاريخ، بل في كونها لحظة مفصلية دشّنت انتقالاً نوعياً في أنماط الوعي والوجود. لقد مثّلت الحداثة، كما عبّر عنها هابرماس، مشروعاً عقلانياً يهدف إلى تحرير الإنسان من قيود الأسطورة واللاهوت عبر تأسيس فضاء جديد للعقل العمومي. لكنها في الوقت ذاته حملت في أحشائها بذور المفارقة: إذ لم يعد العقل مجرد أداة للفهم، بل صار قوة شمولية تطمح إلى الهيمنة وإعادة تشكيل العالم وفق مقتضياتها الخاصة.
لقد كان الانزياح التاريخي الذي دشّنته الحداثة أشبه بزلزال فلسفي، كما أشار ميشيل فوكو، حيث لم يعد السؤال منصبّاً على “ما هو العالم؟” بل على “كيف نتشكّل نحن في العالم؟”. وهنا تتجلى الطرافة العميقة لهذه اللحظة: انتقال مركز الثقل من الموضوع إلى الذات، ومن الجوهر إلى البنية، ومن الميتافيزيقا التقليدية إلى صرح عقلاني جديد، مشبع بالعلم، ولكنه أيضاً مسكون بتوتراته الداخلية.
فالحداثة لم تكن مجرد صيرورة معرفية أو تراكم علمي، بل كانت، كما يذهب هيدغر، “انكشافاً لوجود جديد”؛ إذ حوّلت الكينونة إلى موضوع للاستحواذ التقني، وحوّلت الطبيعة إلى “مخزون” تحت سلطة العقل الأداتي. ومن هنا يبرز مأزقها الجوهري: لقد أرادت أن تحرر الإنسان، فإذا بها تنقله من سجن الأسطورة إلى قبضة التقنية.
إنّ لحظة الحداثة، بهذا المعنى، لم تكن مجرد تأسيس للعقلانية، بل كانت إعادة صوغ لنمط الوجود الإنساني برمته. فهي التي منحت الفرد وعي استقلاله الذاتي كما صاغه ديكارت في “الكوجيتو”، وأكسبت التاريخ وعياً بذاته كما نظّر هيغل، ودفعت الإنسان إلى مواجهة العالم كساحة صراع وتأويل دائم. لكنها في المقابل جعلت الإنسان أسيراً لمشروعه الخاص؛ مشروع لم يعد يُقاس بحدود الحاجة أو الأخلاق، بل بقدرة العقل على التوسع بلا نهاية.
وهكذا فإنّ فرادة لحظة الحداثة تكمن في كونها مشروعاً مزدوجاً: مشروع تحرير ومشروع إخضاع، مشروع تأسيس عقلاني ومشروع انزياح سلطوي. فهي اللحظة التي أخرجتنا من الطمأنينة الميتافيزيقية إلى قلق العقل الحديث، ومن استقرار البنى التقليدية إلى اهتزاز كل الثوابت. وبذلك، تصبح الحداثة لا مجرد محطة تاريخية، بل سؤالاً مفتوحاً على الدوام: هل ما نعيشه هو اكتمال مشروعها، أم سقوطه في هاوية ما بعد الحداثة؟
إنّ سرّ فرادة هذه اللحظة – كما يمكن القول مع أدورنو وهوركهايمر – أنّها أطلقت العقل من قمقمه ليضيء، فإذا به يتحول إلى “عقل أداتي” يسعى إلى السيطرة، فتتحول الحرية إلى قيد جديد. ومع ذلك، يبقى رهان الحداثة، في جوهره، رهانا على قدرة الإنسان أن يعيد صياغة وجوده، وأن يؤسس عالماً يليق بكرامته ووعيه، رغم كل تناقضاتها الموجعة.