السياسي – بعد السهرة التي أحيتها فرقة “ناس الغيوان” المغربية في مهرجان الحمامات بتونس، الذي يستمر إلى الـ13 من أغسطس (آب) الجاري، قد يكون أول سؤال يتبادر إلى عشاق غناء المجموعات هو ما الذي تبقى من “ناس الغيوان” التي تعد أشهر مجموعة غنائية في تاريخ المغرب وأكثرها تأثيراً في هذا النمط الفني؟
لم يصعد إلى خشبة مسرح الهواء الطلق بالحمامات أي فرد من مؤسسي ـ ورواد – المجموعة المغربية الشهيرة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس خلال السبعينيات والثمانينيات، فمعظمهم غادروا عالمنا. وكان الرمز الوحيد الذي يفترض أن يحضر هو عمر السيد (78 سنة)، لكن رشيد باطما القائد الجديد للفرقة أعلن في بداية السهرة أن حضور هذا الفنان الرائد تعذر مما خلف أسفاً لدى الجمهور.
صدح أعضاء الفرقة الجدد بكثير من الأغاني التي يحفظها الجمهور المغاربي منذ عقود، “الله يا مولانا”، و”الصينية” و”فين غادي بي أخويا؟” و”يا صاح” و”الهمامي” و”أهل الحال”. واستعاد الحاضرون تاريخاً متوهجاً للغناء الطلائعي في زمن التمرد وتجديد الوعي. اللافت أن جمهور الغيوان في الحمامات لم يقتصر على جيل دون سواه بل عرف، فضلاً عن كثافته، تنوعاً في الأجيال من الذين عاصروا المجموعة المغربية إلى الذين ولدوا بعد رحيل روادها.
لقد كانت الصورة التي حضرت بها مجموعة الغيوان في تونس مختلفة جداً عن صورتها الأصلية، وربما كان هذا الأمر مثار دهشة لدى عشاق الغيوان من الأجيال السابقة. فبعد موت بوجميع أحكور والعربي باطما وعبدالرحمان باكو وخروج علال يعلى من المجموعة، وبقاء عمر السيد وحيداً، بدا لكثر أن الغيوان انتهت وانتهى زمانها، وما سنسمعه بعد ذلك وتحت كل التسميات سيكون فقط نوعاً من النوستالجيا وصدى لمرحلة لن تعود.
لقد أدخلت الفرقة في صيغتها الراهنة آلات جديدة لم تكن حاضرة طوال الأعوام التي نشطت فيها فرقة الغيوان، مثل الأورغ والكمان والناي، غير أن آخرين قد يرون أن روح الغيوان لا تزال حاضرة، فالكلمات لم تتغير والألحان ظلت كما هي، وطريقة الأداء لم تختلف كثيراً عن السابق.
بداية سياسية
خلال بداية السبعينيات، وهو زمن سياسي صعب في تاريخ المغرب، بدا للجميع أن مجموعة الغيوان فرقة غنائية سياسية، فأغانيهم كانت مشحونة بمفردات الاحتجاج والتمرد. ومع تعاقب الأعوام أدرك الجمهور أنه أمام تجربة فنية متفردة ترفض أن يحدها الخندق السياسي، فقد انفتح نتاجهم الفني على الحياة العامة والتراث والوجدان وهموم الطبقات الهشة وانشغالات الشباب، فضلاً عن الهوية والتراث الديني. لذلك كانت الفرقة تشكل تجربة غريبة استطاعت أن تستقطب أطيافاً مختلفة من الجماهير، يساريين وقوميين ومتصوفين ومتحررين.
اللافت أن سهرة الحمامات شهدت حضور عدد من المثقفين التونسيين الذين يكنن تقديراً خاصاً لتجربة “ناس الغيوان”، من بينهم الشاعر والناشط الثقافي محمد الصديق رحموني الذي توجهت إليه “اندبندنت عربية” بالسؤال عن مدى تفاعل الجمهور التونسي مع أداء المجموعة في صيغتها الراهنة. وأكد لنا أن الغيوان “ضربت موعدها في الحقيقة مع جمهور السبعينيات والثمانينيات الذي نشأ على الأغاني الملتزمة لهذه المجموعة التي حافظت على طابعها الخاص، على رغم التحولات الكبرى التي يشهدها العالم فنياً وذوقياً، وهذا لم يمنع فئة الشباب من الحضور والصدح بكلمات الأغاني التي استمعوا إليها وحفظوها عن ظهر قلب، وهذا ما يدل على تواصل تأثير هذا النوع من الفن في الجيل الحالي”.
يضيف رحموني “على رغم غياب أهم العناصر فإن الفرقة حافظت على توجهها وأسلوبها. افتتح الحفل بأغنيتهم الشهيرة ’الله يا مولانا‘ أمام مسرح ممتلئ بالجمهور والحنين إلى فترة ازدهار مجموعة “ناس الغيوان”. وعلى مدار ما يناهز الساعتين لم يكن جمهور الحمامات العريق مجرد متلقٍ فقط، بل كان شريكاً فاعلاً في السهرة بترديده للأغاني واقتراحه لبعض المعزوفات التي بقيت عالقة بذهنه، وهو ما يعكس أساس توقه إلى تحرير الشعوب ودعم إرادتها في تقرير مصيرها”.
شكل فني مختلف
وبخصوص التغييرات التقنية يقول رحموني “لقد أضفت الفرقة بعداً جديداً على أدائها بإدماج آلات جديدة مثل العود والناي والرق، على سبيل التنويع والإثراء، وربما هي فرصة أخرى للظهور بشكل جديد لكن بالمحافظة على نفس الخط الفني. وبفضل صدقه وعمقه الإنساني الذي ينتصر للحق ويمجد قضايا الإنسان الكبرى، غنى الجمهور رفقة أعضاء الفرقة أغنية صبرا وشاتيلا، في حركة نبيلة تضامنية مع شعبنا الفلسطيني تعبيراً عن إسناده في كل المحن التي يمر بها”.