فشل المشروع السياسيّ الحداثيّ العربي.

د. عدنان عويّد

مفهوم الحداثة:

الحداثة أو العصرنة هي مشروع حياة, يرمي إلى تحديث وتجديد ما هو قديم وبالِ ولم يزل هذا القديم فاعلاً وحيويّاً في حياة هذا المجتمع أو الأمّة, ومعرقلاً لنهضة وتقدم بنية هذا المجتمع أو الأمّة على كافة مستويات حياتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة. وعلى هذا الأساس فالحداثة هنا تشكل ثورة حقيقة على كل ما هو متخلف, وخلق عالم جديد في حياة الشعوب والأمم يتفق وقضايا حريّة الإنسان وعدالته وأمنه واستقراره.

نقول: عندما بدأت تظهر الطبقة البرجوازيّة الأوربيّة كطبقة قائدة للمشروع الحداثي مع قيام الثورة الصناعيّة, هذا المشروع الذي رمى آنذاك إلى تجاوز بنية المجتمع الاقطاعي بكل مستوياته المتخلفة, يساعدها في قيادة هذا المشروع الطبقة العماليّة, ضد السلطات المتنفذة آنذاك في هذا نظام, وهي سلطة الملك والنبلاء والكنيسة, استطاعت الطبقة البرجوازيّة الوليدة بما حققته من تحولات ماديّة وفكريّة عميقة في بنية المجتمع, بسبب الثورة الصناعيّة – كما بينا أعلاه – وتطوراتها اللاحقة, منذ القرن السادس عشر حتى وصول الطبقة البرجوازيّة ذاتها إلى السلطة بعد قيام الثورة الفرنسيّة /1789/, هذه الثورة التي حاولت تجسيد أفكار عصر التنوير التي رافقت هذه الثورة الصناعيّة بما مثله هذا العصر من رؤى فكريّة, تضمنت مفاهيم الحريّة والعدالة والمساواة, والأهم المقدمات الأساسيّة لأفكار المسألة القوميّة التي كانت تطالب بتحقيق المشروع القوميّ للدول الأوربيّة, وتجاوز التفتيت الاقطاعي الذي حل بالدول الأوربيّة آنذاك من جهة, ثم تحقيق السوق الموحدة للدولة القومية خدمة لمصالح طبقتها البرجوازية الوليدة, وتطبيق الشعار “الميركانتيليّة” دعه يعمل دعه يمر..

هذا ويمكننا الإشارة إلى أهم ما تضمنه الخطاب السياسي الحداثي في أوربا الذي يهدف برأيي لتحقيق مسألتين أساسيتين على درجة عالية من الأهميّة هما:

الأولى: بناء دولة المؤسسات والمواطنة والقانون وتداول السلطة والعقد الاجتماعي, واعتبار الشعب هو مصدر السلطات, واختيار نظام الحكم, وهو وحده من يحق له تنصيب هذا الحاكم أو عزله عبر ممثليه, في المجالس النيابيّة المنتخبة من الشعب ذاته.

والثانية : بناء الدولة القوميّة, التي تعني توحيد مقاطعات الدولة, بعد القضاء على السلطة الاقطاعيّة, وبذلك مُنِحَتْ الدولة الأوربيّة الواحدة قوّة بعد ما كانت ضعيفةً ومجزأةً.

بيد أن الطبقة البرجوازيّة التي سيطرت على السلطة بالتعاون مع الطبقة “الرابعة” من عمال وفلاحين ومهمشين ومسحوقين, وبعد أن حققت دولها مشروعها القومي بعد القضاء على ما سمي آنذاك بدول المدن, راحت شيئاً فشيئاً تسعى للسيطرة على الدولة والتفرد بسلطتها, ثم تسخير إمكانيات الدولة والأمّة لمصالح مشاريعها الاستعماريّة التي كانت تهدف إلى كسب أسواق خارجيّة للحصول على مواد صناعاتها الأوليّة وتصريف منتجاتها. وتحت مضامين هذا التوجه الاستعماري راحت تبرر استعمارها لشعوب العالم الثالث باسم رسالة الرجل الأبيض, وبدعم من المؤسسات الدوليّة التي صنعتها هي منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى, كعصبة الأمم المتحدة التي تأسست عام 1919, والجمعيّة العامة للأمم المتحدة 1945, ثم هي ذاتها راحت تمارس قهرها وظلمها على الطبقة العماليّة التي ساندتها في ثورتها ضد الاقطاع وحوامله الاجتماعيّة من جهة, وعلى البرجوازيّة الصغيرة من خلال المنافسة والاحتكار من جهة ثانية, وعلى عموم الشعب من جهة ثالثة, حيث عملت على تهجين ونمذجة شعوبها عبر إعلامها ودعواتها إلى الحريّة الفرديّة بحدودها شبه القصوى, وإدخالها عالم ما بعد الحداثة, وهو عالم الغربة والاستلاب والتشيء ونهاية التاريخ وموت الفن والأدب والدين والقيم.. الخ.

على العموم لا يمكن لنا أن ننكر ما حققته مرحلة الحداثة التي امتدت منذ استلام الطبقة البرجوازيّة السلطة في أوربا منذ أواخر القرن الثامن عشر حتى قيام الحرب العالمية الثانيّة, حيث ساد الأمان والاستقرار والعيش الرغيد للمجتمعات الأوربيّة رغم النتائج السيئة للحرب العالميّة الآولى, وذلك كله ساهم في الحقيقة بالوقوف ضد أية سلطة استبداديّة شموليّة دينيّة كانت أم سياسيّة وضعيّة, متبنية مضمون مقولة “لويس الرابع عشر” : (أنا الدولة والدولة أنا).

الحداثة على المستوى العربيّ:

إن من يتابع سيرورة وصيرورة الكيان العربي على كافة مستوياته الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة, سيجد أن هذا الكيان العربيّ ظل يجتر تخلفه منذ مئات السنين دون تقدم على المستوى البنيوي للدولة والمجتمع معا, فالبنية الاقتصاديّة في سياقها العام, ظلت بنية متخلفة لم تستطع تجاوز الاقتصاد الريعي القائم على تصدير المواد الأوليّة للصناعة إن كان على مستوى الزراعة, أم على مستوى الثروات الباطنيّة. فالأسوق العربيّة هي أسواق للبضائع الأوربيّة راحت تدار بعد الاستقلال من المستعمر من قبل شرائح ولا أقول طبقة من التجار الكومبردور العرب, ثم من قبل طبقة من الطفيليين والسماسرة داخل هذه الدولة أو تلك من الدول العربيّة, وبخاصة في الدول التي ادعت التقدميّة, وإن وجدت طبقة صناعيّة فهي طبقة وليدة لم تزل في بدايتها, وإن أكثر صناعاتها تجميعيّة, أو صناعات اللمسات الأخيرة, وعلى مستوى البنية الاقتصاديّة ذاتها في الدول العربيّة التي تبنت التوجه الاشتراكي, فقد ساد أنموذج ما سمي برأسماليّة الدولة الوطنيّة, وهو أنموذج ساهم في تشكيل شرائح من القياديين الفاسدين للمشروع الاقتصاديّ الاشتراكيّ, الذين نهبوا أموال الدولة وأفسدوا بنيتها وآليّة عملها, وتحولوا كما بينا قبل قليل إلى برجوازيّة بيروقراطيّة وطفيليّة عاثت فسادا في الدولة والمجتمع معا.

أما على المستوى الاجتماعيّ: فهي دول ما قبل الدول. أي دول لم تزل تتحكم في بنيتها الاجتماعية المرجعيات التقليديّة, من عشيرة وقبيلة وطائفة.

وعلى المستوى السياسيّ: هي دول فرضت فيها المرجعيات التقليدية نفسها على السلطة, فكانت سلطة عشيرة وقبيلة وطائفة, وأمير وملك. أما في الدول التي قادتها أحزاب تدعي الثوريّة والعلمانيّة والديمقراطية, فقد غلبت على قادتها شهوة السلطة, فعسكروا الدولة, وفرضوا قادة لهم سمات كاريزميّة, راحوا يقودون الدولة والمجتمع وفق أجندات غالباً ما راحت تتحكم فيها المرجعيات التقليديّة أيضاً, وهنا أفرغت كل الشعارات التقدمية من علمانيّة وديمقراطيّة ودولة قانون ومؤسسات التي نادت بها هذه الأحزاب التقدميّة ودساتير دولها, لتتحول هذه الدول في بنيتها السياسيّة المؤسساتية التي تشكلت إرهاصاتها الأوليّة بعد الاستقلال, إلى بنية سياسيّة تأبدت فيها السلطة الحاكمة وتحول بعضها إلى طابع وراثي لا تختلف عن الدول التي يقودها الملك والأمير. أي سلطة استبداديّة شموليّة من نمط سلطة الأسرة والقبيلة والطائفة.

إن كل الشعارات  التقدميّة الحداثيّة التي رفعت باسم الوطنيّة والقوميّة والاشتراكيّة, في الدول التي تدعي التقدميّة بشكل خاص قد أجهضت, فثورات الربيع العربي بينت أن هذه الأنظمة لم تستطع أن تحقق لا الوحدة الوطنيّة ولا الاشتراكيّة ولا العلمانيّة ولا الديمقراطيّة ولا دولة القانون أو دولة المؤسسات, إضافة لفشل مشروعها القوميّ فشلاً ذريعا, بحيث تحولت إلى دول أو أنظمة منبوذة من قبل شعوبها, التي قامت ضد هذه الأنظمة في أو فرصة سنحت لها للتحرك .

أمام هذا الفشل الذريع في تحقيق النهضة والحداثة لشعوب الدول العربيّة إن كان عن طريق المشروع القومي أو المشروع الاشتراكي, وجد أصحاب التيار السياسي الإسلاموي الفرصة سانحة للتحرك من أجل الوصول إلى السلطة, مستغلين قيام الثورة الإسلاميّة الخمينيّة في ايران ودعهما لأصحاب هذا المشروع, وتطبيق الحاكميّة, وقد لقى أصحاب هذا المشروع السياسيّ الإسلاموي, التجاوب الكبير في بداية انطلاقتها مع ثورات الربيع العربي من قبل الجماهير التي فقدت ثقتها بأنظمتها وقادتها وشعاراتهم التي لم تولد لها إلا الفاسدين والمطبلين والمزمرين وطلاب السلطة, علما أن الوعي الديني ذاته قد عملت كل الأنظمة العربيّة دون استثناء على تغذيته والحض على نشره وتعميمه من خلال مؤسسات الدولة الدينيّة التي تحولت إلى اداة بيد السلطات الحاكمة يتوجه موظفوها بتوجهات هذه السلطات ومصالحها, في الوقت الذي تم فيه محاصرة واقصاء كل المشاريع الفكرية التنويريّة ورجالتها على مستوى المسرح والسينما والبرامج التلفزيونيّة وحتى قيادة مؤسسات الدولة وإداراتها.

إن هذا التماهي بين الدين والسلطة السياسيّة الحاكمة تحت مسمى (العروبة والإسلام) بشكل خاص, أعطا مداً غير عادي لرجال الدين والفكر الدينيّ الامتثاليّ الجبريّ الاستسلاميّ القائم على النقل لا العقل, وعلى ثقافة الفم لا القلم.

أما النتيجة فكانت ضياع للفكر التنويريّ الليبراليّ والتقدميّ عموماً, بل وحتى الإسلامي المعتدل المؤمن بالعقل وفتح باب الاجتهاد. وهنا فقدت الأنظمة العربيّة اليمين واليسار والوسط, ولم يبق في هرمها السلطوي إلا من تحكمت بهم شهوة السلطة والفاسدين وتجار الوطن. وبذلك كرهت الشعوب بهم وبأنظمتهم وشعاراتهم, فكانت ثورات الربيع العربيّ بكل عجرها وبجرها, محاولة للتغير, بيد أن الفساد وغياب المشروع السياسيّ الموحد, والحامل الاجتماعيّ الموحد لها, كان عاملاً هداماً لهذه الثورات, أفقد هذه الثورات كل مضامينها الثوريّة, كون ما قام به قادة هذا الربيع من أعمال لا منطقيّة شكل بنظري مهازل الثورة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى.

كاتب وباحث من سوريّة

d.owaid333d@gmail.com

 

شاهد أيضاً