“هذا الاحتلال لا يُهزم بالكلام، ولا تُستعاد الحقوق بالوعود، بل فقط بالوعي والمواجهة المستمرة لكل من حاول تحويل الجريمة إلى واقع طبيعي.”
ما يجري في فلسطين ليس فشلا أخلاقيا للعالم، بل قرارا واعيا بإدارة الجريمة بدل إيقافها، لأن كلفة العدالة أصبحت أعلى من كلفة الظلم.
كل ما يُسوق اليوم تحت عناوين التهدئة والمراحل وخطط السلام ليس إلا غلافا سياسيا لتحويل الاحتلال من جريمة مستمرة إلى واقع طبيعي. يُطلب من الفلسطيني أن يهدأ، ليس لأن السلام قريب، بل لأن الجريمة اكتملت وتحتاج فقط إلى تنظيم آثارها الجانبية.
في هذا السياق، لا تُدار غزة ولا تُناقش الضفة ولا تُستهدف القدس كلٌ على حدة، بل تُدار فلسطين كاملة كمختبر سياسي وأخلاقي.
إلى أي حد يمكن شطب الحقوق، وتفريغ القرارات الدولية، وإفراغ القانون من مضمونه، دون أن يهتز النظام الدولي؟
التجربة الجارية تُظهر أن الكثير ممكن، طالما أن الظلم يُقسم إلى مراحل، ويُغلف بلغة إنسانية، وتُخفض كلفته على الجلاد.
في غزة، لا سلام يُحضر ولا حرب تُحسم. ما يُدار هو نموذج “اللاسيادة المُنظَّمة”. المرحلة الأولى من التهدئة مجرد هدنة تقنية لتخفيف الضغط الدولي وتلميع صورة الاحتلال، بينما يبقى الحصار قائما والمعابر رهينة، والعدوان قابلا للاستئناف في أي لحظة.
أما الحديث عن المرحلة الثانية، فيُستخدم كوعاء فارغ لشراء الوقت، لأن تنفيذها الحقيقي يعني وقفا مستقرا للنار، وانسحابا، وفتحا للمعابر، وإعمارا ذا مضمون سياسي. وهذا بالضبط ما لا تريده إسرائيل، وما لا تملك الولايات المتحدة إرادة فرضه.
تُستدعى عناوين براقة.. قوة استقرار دولية، مجلس سلام دولي، إدارة انتقالية.
لكن عند تفكيك هذه الطروحات، يتضح أنها بلا تفويض ملزم، بلا أدوات فرض، وبلا استعداد دولي لتحمل الكلفة.
إسرائيل ترفض أي وجود دولي يُقيد يدها أو يضعها تحت رقابة دائمة، وأمريكا تحمي هذا الرفض، والدول الأخرى تكتفي بالدور الإنساني.
هكذا تتحول “الحماية الدولية” إلى خطاب مريح، لا إلى حماية حقيقية.
البديل المطروح لغزة هو إدارة مدنية بلا سيادة، تُكلف بتسيير الحياة اليومية، ودفع الرواتب، واحتواء الغضب، بينما يبقى القرار النهائي بيد الاحتلال. الخطر ليس فشل النموذج، بل نجاحه الجزئي، حين يُستبدل الحق بالمساعدة، والتحرر بالإغاثة، والمقاومة بإدارة البؤس.
في الضفة الغربية، ما يجري ليس توسعا استيطانيا، بل مشروع حسم كامل.
الضفة تُفكك إلى كانتونات معزولة، تُدار أمنيا فلسطينيا، وتُسيطر عليها إسرائيل جغرافيا وسياديا.
الطرق الالتفافية، الجدران، المناطق العسكرية، ومنع التواصل الجغرافي، كلها أدوات ترسيخ وليست أدوات تفاوض. فكرة الدولة الفلسطينية لم تعد مؤجلة، بل تجاوزت الواقع العملي.
السلطة الفلسطينية وُضعت في موقع بالغ الخطورة: إدارة حياة بلا حماية، وتحمل كلفة الغضب الشعبي، بينما يتوسع الاحتلال فوقها. وكلما ضعفت السلطة، تقدم المشروع الاستعماري خطوة إضافية. هكذا يُستنزف الفلسطيني من الداخل، ويُعفى الاحتلال من كلفة احتلاله.
أما القدس، فقد حُسمت في القرار الإسرائيلي، ويجري استكمال حسمها بالزمن.
الضم القانوني، التهويد المكاني، التفريغ الديمغرافي، سحب الهويات، وخنق المؤسسات والتعليم، ليست إجراءات منفصلة، بل سياسة متكاملة لتقليص الوجود الفلسطيني إلى وجود سكاني بلا وزن سياسي.
المسجد الأقصى هو ساحة الاختبار الأخطر، حيث تُفرض الوقائع تدريجيا، ويُقاس مدى استعداد العالم لتحمل انفجار مؤجل.
غياب الردع الدولي يسمح باستمرار هذا المسار..
دوليا، هناك قبول صامت ببيانات قلق وتمويل إنساني بلا إجراءات ملزمة.
عربيا، تُدار الأزمة خوفا من تداعياتها، وفلسطينيا، يدفع الانقسام والإرهاق ثمنهما مضاعفا.
إذا استمر هذا النهج، فالصورة القادمة واضحة.. غزة تُدار لمنع الانفجار، الضفة تُحسم بلا إعلان، والقدس تُنتزع بالزمن. لا حرب شاملة، ولا سلام عادل، بل واقع استعماري مستقر نسبيا، تُدار فيه حياة الفلسطينيين بأقل كلفة ممكنة على الاحتلال.
الخطر الأكبر أن يصبح هذا الواقع مألوفا، والتضحيات أرقام، والحقوق مطالب إنسانية، والحرية بند مؤجل.
ما نحتاجه ليس خطة جديدة، بل كسر المنطق كله.. إعادة تعريف فلسطين كقضية تحرر وطني، لا كأزمة قابلة للإدارة.
هذه ليست دعوة لليأس، بل تحذير من أخطر أشكاله.. التعايش مع الظلم حين يُقدم بلباس الإدارة والعقلانية.








