تعيش فلسطين اليوم واحدة من أكثر مراحلها قسوة وتعقيدًا، مرحلة يتداخل فيها الحصار المالي مع العدوان الميداني، ويترافق فيها الاحتلال المباشر مع خذلان عربي رسمي وجمود سياسي إقليمي تحكمه حسابات المصالح وسياسات الإملاء الأمريكية، التي عاد شبحها ليخيّم على المنطقة بعقلية ترامب القائمة على الابتزاز، وشرعنة الاحتلال، وتحويل القضية الفلسطينية من قضية تحرر وطني إلى “ملف إنساني” قابل للمساومة.
في الداخل الفلسطيني، تتكاثف الأزمات: وقف أو تقليص المساعدات العربية والدولية، احتجاز أموال المقاصّة، هجمات المستوطنين المنفلتة من كل قيد، اقتحامات الجيش للمدن والقرى والمخيمات، عربدته اليومية على الحواجز، وخنق الاقتصاد الفلسطيني حتى باتت الحياة نفسها معركة يومية. كل ذلك يجري في ظل صمت عربي رسمي مريب، لم يعد مجرد تقصير، بل جمودًا سياسيًا مقصودًا ينسجم مع الرؤية الأمريكية–الإسرائيلية التي ترى في إنهاك الفلسطيني مدخلًا لتصفية قضيته.
إن هذا الجمود العربي، المحكوم بسقف السياسة الأمريكية وبخاصة نهج ترامب، لم يكتفِ بالتخلي عن الدور التاريخي الداعم لفلسطين، بل تحوّل في بعض الحالات إلى عامل ضغط إضافي، عبر ربط الدعم بالمواقف السياسية، أو بالصمت على الجرائم الإسرائيلية، أو بفتح أبواب التطبيع على حساب الدم الفلسطيني. وهنا، يجد الشعب الفلسطيني نفسه شبه وحيد، في مواجهة آلة احتلال لا ترحم، ومنظومة دولية تكيل بمكيالين.
أمام هذا الواقع، تقع على عاتق السلطة الفلسطينية مسؤوليات جسيمة لا تحتمل التأجيل ولا التردد. فالسلطة مطالبة أولًا بتأمين مقومات الحياة الأساسية لشعبها، عبر إدارة طوارئ اقتصادية حقيقية، تعيد ترتيب الأولويات، وتوجّه الموارد الشحيحة نحو حماية الفئات الأكثر تضررًا. وفي مقدمة هؤلاء تأتي أسر الشهداء والجرحى والأسرى، الذين لا يمثلون عبئًا ماليًا، بل خط الدفاع الأخلاقي والوطني الأول عن القضية الفلسطينية.
إن أي مساس بحقوق أسر الشهداء والأسرى، أو التعامل معها كملف قابل للمساومة تحت الضغط المالي أو السياسي، هو مساس بجوهر المشروع الوطني نفسه. هؤلاء قدّموا أغلى ما يملكون دفاعًا عن فلسطين، وواجب السلطة – سياسيًا وأخلاقيًا ووطنيًا – أن تضمن لهم حياة كريمة، ورعاية ثابتة غير خاضعة للابتزاز الخارجي أو للتقلبات السياسية. فكرامة الأسير وذوي الشهيد ليست بندًا في موازنة، بل عنوانًا للوفاء الوطني.
وفي الوقت ذاته، فإن السلطة مطالبة بالخروج من دائرة ردّ الفعل إلى الفعل السياسي المنظّم: تفعيل المسار القانوني الدولي، بناء شبكة أمان سياسية واقتصادية بديلة، والانفتاح الحقيقي على كل مكونات المجتمع الفلسطيني، سياسيًا ونقابيًا وشعبيًا، لصياغة استراتيجية صمود شاملة.
أما على صعيد الشعب، فإن المرحلة تتطلب وعيًا عاليًا وصلابة داخلية. المطلوب اليوم هو تحصين الجبهة الداخلية، تعزيز التكافل الاجتماعي، دعم المنتج الوطني، ورفض الانجرار إلى الفوضى أو اليأس، لأن الاحتلال يعوّل على تفككنا أكثر مما يعوّل على قوته العسكرية. النقد واجب، والمطالبة بالحقوق حق، لكن ضمن إطار وطني يحمي المجتمع ولا يفتح ثغرات في جسد القضية.
إن فلسطين اليوم تقف عند مفترق طرق خطير:
إما أن تتحول الأزمات المتراكمة إلى لحظة انهيار،
أو إلى محطة إعادة بناء للصمود الوطني، عنوانها الوضوح، الشراكة، والوفاء لتضحيات الشهداء والأسرى.
وفي زمن الخذلان العربي وجبروت الاحتلال، يبقى الرهان الأخير – كما كان دائمًا – على وعي هذا الشعب، وصدق قضيته، وقدرته على تحويل الألم إلى قوة





