لا تزال فلسطين، بأرضها وشعبها وأسراها، تتصدر مشهد الصراع في الشرق الأوسط، ليس فقط باعتبارها قضية وطنية، بل لكونها البوصلة الأخلاقية والسياسية للمنطقة. العدوان الإسرائيلي المتكرر على الشعب الفلسطيني لم يعد شأناً داخلياً، بل بات عامل زعزعة إقليمي واسع التأثير، حيث يلهب مشاعر الغضب في العواصم العربية، ويهدد التوازنات الدقيقة في دول الجوار، كما يعطل مشاريع التطبيع والاستقرار، ويكشف هشاشة الخطابات السياسية في وجه انتهاكات الاحتلال.
ففي ظل موجات القصف والاعتقالات والدمار، تتصدع العلاقات العربية الدولية، وتتعاظم الضغوط على الحكومات المطبعة، بينما يظل الشارع العربي وفياً للثوابت، منتفضاً في كل محطة دامية، وآخرها حرب غزة 2024-2025، التي كشفت من جديد عمق التناقض بين الإرادة الشعبية والمواقف الرسمية.
ورغم مضي أكثر من سبعة عقود على النكبة، ما تزال فلسطين حاضرة في ضمير الأمة كرمز للعدالة المفقودة. فالقضية الفلسطينية لم تفقد مركزيتها، بل تعمقت رمزيتها كعنوان لمظلومية مستمرة، يتجسد فيها كل ما هو مناهض للاحتلال والعنصرية والهيمنة. كلما اشتد الصراع أو تصاعد العدوان، برزت فلسطين من جديد كالقضية التي لا تموت، لتعيد ترتيب أولويات الشعوب وتذكير العالم بأن الاحتلال لا يمكن أن يُغسل بالمصالح أو يُجمّل بالتطبيع.
في قلب هذا الصراع، تبرز قضية الأسرى الفلسطينيين بوصفها الوجه الأشد مأساوية وكرامة في آن. أكثر من عشرة آلاف أسير يقبعون خلف قضبان السجون الإسرائيلية، بينهم نساء وأطفال ومئات المعتقلين الإداريين. منذ بدء حرب الإبادة الأخيرة، تزايدت عمليات الاعتقال العشوائي، رافقها تعذيب ممنهج، تنكيل نفسي وجسدي، وجرائم تصفية جسدية راح ضحيتها العشرات من الأسرى، لا سيما من غزة، وسط تعتيم إعلامي وقانوني كامل. الأساليب المستخدمة ضد الأسرى تصل إلى حدود الجرائم ضد الإنسانية: من الشبح والضرب والحرمان من النوم، إلى العزل الانفرادي والابتزاز الجنسي والتجويع والإهمال الطبي المتعمد.
بل إن الاحتلال لم يكتف بحرمان الأسرى من حريتهم، بل تجاوز ذلك إلى احتجاز جثامين الشهداء، ودفنهم في ما يسمى بـ”مقابر الأرقام”، في انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني. سياسة قاسية لا تستهدف الميت وحده، بل تعذّب الأحياء من ذويه، وتحرمهم من وداعه ودفنه وفق طقوسهم، وتبقيهم في حداد معلق، وجرح لا يندمل.
المحاكم الإسرائيلية، من جهتها، تُستخدم كأدوات قمع سياسي، حيث يُحاكم الفلسطينيون أمام محاكم عسكرية تفتقر لأبسط مقومات العدالة، ويُحتجز الآلاف إدارياً دون تهم أو محاكمات، في استهتار كامل بالقوانين الدولية. ومع ذلك، يواصل نادي الأسير الفلسطيني ومؤسسات حقوق الإنسان توثيق هذه الانتهاكات ورفعها إلى المحافل الدولية، رغم كل ما يواجهونه من عراقيل وضغوط.
عائلات الأسرى، بدورها، تتحمل هذا العبء النفسي الرهيب، محرومة من الزيارة، تعاني من الانتظار والقلق، لكنها صامدة، تدعم أبناءها بكل الوسائل المتاحة، وتحوّل الألم إلى حكايات مقاومة وصبر. وفي المقابل، تقدم بعض المؤسسات الفلسطينية والدولية دعماً نفسياً واجتماعياً لهذه العائلات، وإن كان غير كافٍ أمام حجم المعاناة.
أما الإعلام، فصورته قاتمة. في حين تضيء بعض المنصات العربية والدولية مشاهد الألم الفلسطيني، فإن التغطية لا تزال دون المستوى المطلوب، تعاني من التسييس والانتقائية، وتتأثر بالضغوط السياسية والمصالح، مما يجعل الكثير من الجرائم الإسرائيلية تمر بلا محاسبة أو حتى توثيق.
وفي هذا السياق، يوجّه نادي الأسير الفلسطيني رسالة محبة وامتنان إلى الشعب الجزائري وكل الشعوب العربية، على مواقفهم الأصيلة وتضامنهم الثابت، وعلى رأسهم الإعلامي الجزائري خالد عز الدين، الذي نقل صوت الأسرى بشجاعة، وجعل قضيتهم حاضرة في وعي الجماهير.
ختاماً، تبقى فلسطين جرحاً مفتوحاً في قلب الأمة، وتبقى قضية الأسرى عنواناً للكرامة في زمن الانكسار، ونقطة التقاء بين نضال الداخل وتضامن الخارج. وإن استمر الاحتلال في ظلمه، فإن صمود الشعب الفلسطيني، وإصرار الأحرار في كل مكان، سيظلان نبضاً لا يخبو، حتى يتحقق العدل وتعود الأرض لأصحابها.